«لا يوحشنّك طريق الحق لقلة السائرين، فإن اجتمع الناس فعلى مائدة شبعها قصير وجوعها طويل» الإمام علي كرّم الله وجهه.
لامَني كل أصدقائي المحبين لأنني اعتدت على قول كل ما أراه وأفكر به، من دون حساب العواقب. وبكل موضوعية لم أكن موفّقا دائما في ما أقوله لكونه غير مناسب للمرحلة، أو محرج للصديق قبل الخصم. لكنني، طالما لا أطلب أن يعجب كلامي المعسول أو المر، لا الصديق أو الخصم، فما لي إلا أن أترك العنان لقلمي لكي يتحرك من دون توجيه، ليرسم على الورق ما خطر ببالي. وأنا اتخذت من أحمد فؤاد نجم إماما بقوله العظيم “مرّ الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر… أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ… والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا على الحر”. قضى نجم عمره فقيراً ملاحقاً من السلطات المتعددة التي حكمت مصر، وقضى ردحاً من سنواته في سجون النظام، وبالطبع لم يصبح فجأة وزيراً للثقافة أو الإعلام.
لكن لوم أقرب الناس لي كان مثلا لم لا أتصل بالوزير الفلاني لتهنئته، فلربما احتجت له يوما لحاجة في نفس يعقوب. لكني اعتبرت دائما أن الحكم الرشيد لا يجب أن تتدخل فيه العلاقات الشخصية، خاصة إن كان يعقوب لا يحتاج شيئا لذاته. أعلم أن استنتاجاتي ليست بالضرورة واقعية، لكن على الأقل يبقى الأمل. بانتظار الأمل أن يتحقق، لا شيء سيمنعني من أن أعبّر عما يستفزّني من مشاهدات لوزراء جدد أتوا إلى عالم الأضواء.
من نَكد الدهر هو أن التاريخ يبنيه مجانين العظمة الساعين إلى تخليد اسمهم وذاتهم أبد الدهور. ولو راجعنا مثلا جنون الفرعون “زوسر”، ومن بعده “خوفو” و”خفرع” و”منقرع”، كما الرماسيس وغيرهم، فقد خلدهم التاريخ، ليس لأنهم بناؤون أو صناع سلام أو مفكرون عظام، بل لمجرد أنهم لم يأبهوا بعذابات البشر الذين ماتوا جوعا أو قهرا أو مرضا أو في ساحات الحرب، لمجرد أن يذكر التاريخ إسم مجنون عظمة جديد. أما البناؤون الذين استشهدوا وهم ينقلون أطنان الحجارة لترتفع على الإهرامات أو نصب معبد أبو سنبل، أو الجنود الذين ماتوا في المعارك، أو الطفل الذي ترك ليموت جوعا بعد أن فقد معيله، فلن يذكرهم أحد.
التاريخ لا يسعى إلى الإنصاف، فمساره أعمى لأنه لا يقرر شيئا، ولا ينصف المظلوم، ولا يعاقب الجاني. مسار أعمى، وإن حدث شيء غير ذلك، فهو محض صدفة. لكن المؤكد هو أن جنكيز خان وهولاكو وبركيه خان وتيمورلنك يذكرهم التاريخ بأضعاف ما يذكر عن عمر الخيام أو جلال الدين الرومي. والتاريخ أيضًا يذكر نابوليون باتصاراته الباهرة، ويذكر أعداءه للشيء ذاته، ونادرا ما يتحدث عن الثورة الثقافية والسياسية التي أحدثها وجوده القصير على الساحة الأوروبية. كذلك أدلف هتلر وستالين وأبو بكر البغدادي… كلهم كانوا رجال العام، والأعوام التي تلت، وربما إلى الأبد!
الإشكال هو ليس بمجنون العظمة، بل بالمهرجين الذين يحولون القاتل إلى بطل، والديكتاتور إلى حمامة سلام، ويحولوا تدمير المدن على رؤوس سكانها إلى تنظيم مدني، والتهجير إلى تنظيم ديموغرافي، والتصفية العنصرية إلى تصحيح تاريخي، والكيماوي إلى مضادات حيوية، والنيترات إلى سماد كيماوي، ولوائح الضحايا بأنها ضرورات حربية… لائحة تطول من الموبقات الفظيعة.
الإشكال الأكبر هو عندما تذهب شخصيات، موصوفة بالثقافة والفن والإبداع، متبرقعة بابتسامة تذكرك بضحكة المهرج “جوكر” في أفلام الرجل الوطواط، لكي يتلبسوا ثوب المهرج في قصر السلطان الفاجر. بعضهم ممثلون قاموا بأدوار بمنتهى الإنسانية ثم دعوا المتسلط إلى إبادة البشر. آخرون ألفوا مسرحيات عن الثورة والحق والحرية، وغنوا للشعب والحق، وجلسوا على أعتاب الجزار ليمدحوا سكاكينه. آخرون، تعلموا إغواء الناس بمظهر المثقفين في برنامج تلفزيوني! الناس المتسمرين أمام الشاشات بانتظار من سيربح المليون، يظنون أن المسابقة هي من بنات أفكار المذيع، صاحب الحركات المسرحية والطلة البهية والضحكة الذكية، موحيا في كل سؤال بأنه العالم بالجواب. فيظن الناس أن هذا المذيع هو موسوعة معرفية جديرة بالثناء والإطراء. لا بأس، فمن مزايا الإعلام هو معرفة كيفية التأثير المسرحي على المشاهد.
هتلر مثلا، كان يأخذ دروساً وتوجيهات من خبراء مسرحيين قبل إطلالاته العديدة خطيباً في الجموع المحتشدة لتهتف “لبّيك هتلر” “سيك هايل، سيك هايل”، وهم يأخذون العالم والشعب الألماني العريق إلى المحرقة. السؤال الذي لا جواب له، كيف لشعب أعطى العالم الفن والقانون والفلسفة والموسيقى، أن يقوده ممثل هزلي ورسام من الدرجة الثالثة؟ الجواب هو أن أصحاب الرأي الأحرار جبنوا عن قول الحق، واختفوا أو تواروا عن الأنظار بانتظار هدوء العاصفة وعودة الفطنة والحكمة. وحتى فيلسوف القرن العشرين الأعظم، مارتن هيدغر، أخذه الديكتاتور إلى سقوط ما زال فكره العظيم يدفع ثمنه حتى اليوم موصوماً بالنازية ومعاداة السامية. لكن سكوت أهل الحق عن الباطل يجعل الباطل حقا، فيصبح مهرج السلطان وزيراً، يعظ الناس ويدلهم على دروب الباطل. كنت قد كتبت معظم هذه المقالة منذ بضعة أسابيع، ثم أحجمت عن نشرها لظني أن المهرج مقتنع بقوله، أو ربما لديه وجهة نظر تشبه وجهتَي نظر مارتن هيدغر أو نيتشه حول السوبرمان أو البطل الأسطوري الذي “سيهدم هوة الجحيم”، لكن جبنه في الدفاع عن موقفه جعل منه مهرجاً…