في خضمّ أزمات لبنان المصيرية، شهد اللبنانيّون والعالم فضيحة صحيّة هزّت صدقية الدولة اللبنانية، بطلها مجلس النّواب ووزارة الصحة التي كانت أول من خرق الخطة الوطنية المتفق عليها مع البنك الدولي، وسمحت بتلقّي عدد من النواب اللقاحات بطريقة مخالفة لآلية التوزيع المعتمدة. وقد لوّح الممثل الإقليمي للبنك الدولي بتجميد تمويله لدعم اللقاحات المضادة لفيروس كورونا في لبنان في حال تأكّد حصول «واسطة»، فيما أطلق بعض النّواب تبريراتٍ غير مقنعة بعد فضيحة تلقّيهم اللقاح في مجلس النواب، بينما شنّ نائب رئيس مجلس النواب إيلي فرزلي هجومًا عنيفاً على الممثل الإقليمي لدائرة المشرق للبنك الدولي، خرج به عن الأصول واللياقة المتّبعة.
وعلى إثر الفضيحة، ردّ المدير الإقليمي في البنك ساروج كومار قائلاً:«هذا لا يتماشى مع الخطة الوطنية المتفق عليها مع البنك الدولي، وسنسجل خرقه للشروط والأحكام المتفق عليها معنا للتطعيم العادل والمنصف. على الجميع التسجيل وانتظار دورهم. عندما نتأكد من حصول انتهاكات للشروط، البنك الدولي قد يعلق تمويل اللقاحات ودعم استجابة ضد كورونا في جميع أنحاء لبنان. لا واسطة!».
فضيحة مجلس النّواب تضاعفت بعد تداول معلومات تفيد بأنّ عدد اللقاحات الفعلي في مجلس النواب تخطى الستّة عشرة لأن غالبية النواب أتوا بزوجاتهم وقد خضعن بدورهن للقاحات أيضاً. وقد أكّد النائب إيلي الفرزلي أنّ وزير المال الدكتور غازي وزني تلقّى اللقاح في مجلس النّواب. كما تبيّن أنّ عدداً من النواب غير الذين أعلن مجلس النواب عنهم او أعلنوا عن أنفسهم، تلقوا اللقاح بشكل شخصي وبعيداً من الإعلام في المستشفيات، وهم من خارج الفئات العمرية المشمولة بخطة التلقيح. وقبل ايّام أعلن مكتب الاعلام في رئاسة الجمهورية ان رئيس الجمهورية واللبنانية الأولى تلقيا اللقاح مع عشرة من أعضاء الفريق اللصيق والملازم للرئيس.
وقد جاءت تبريرات المعنيّين بالفضيحة أقبح من الذّنب المُرتكب بحق اللبنانيّين، وقد وصلت الوقاحة بالنائب ايلي الفرزلي الى عقد مؤتمر صحافي توعّد من خلاله اللبنانيّين الذين انتقدوا تلقيه اللقاح فيما أحباؤهم أولى منه. وشنّ الفرزلي هجوماً شرساً على الممثل الإقليمي للبنك لم يخلُ من التنمّر على اسمه بوصفه «فروج مروش»، ناعتاً ايّاه بالمنافق والكاذب، ومهدّداً بطرده من لبنان. ويبدو أن النائب الفاقد للمشروعيّة الذي حصل على اللقاح بشكل فاضح وغير شفاف قد نسي أنّ اللقاح تم شراؤه بقرض من البنك الدّولي الذي سيسدّده اللبنانيون من جيوبهم. أمّا المضحك المُبكي فجاء على لسان النائب غازي زعيتر الذي أعلن بوقاحة وتعالٍ أنه لبناني أكثر من غيره، ما يجيز له تلقي اللقاح قبل غيره.
وبعد غيابه عن التعليق على فضيحة مجلس النواب، رد وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور حمد حسن مبرّراً بأنّه «اتخذ قراراً سيادياً وارتأى بأن تتوجه الفرق الطبية الى مجلس النواب من اجل اجراء عملية التلقيح للنواب تقديراً لجهودهم، لان المجلس النيابي اجتمع خلال ٧ ايام بشكل متتالٍ وأقر قانون الاستخدام الطارئ للقاح… ويلّي بيشوفك بعين بدك تشوفو بعينتين!»، وأضاف:«سأزور المرجعيات الروحية لإعطائهم اللقاح كما أعطيت اللقاح للنّواب».
ويبدو أن وزير الصحّة يجهل مفهوم القرارات «السّياديّة» التي تصدر عادةً عن جهة عليا في الدولة مثل رئاسة الجمهورية أو الأمن القومي او ما شابه. كما انّه يجهل أنّ دور النّواب هو التشريع وذلك لا يستدعي تقديراً ولا شكوراً ولا قفزاً فوق اللبنانيين لتلقي اللقاح. وإذا كنّا سنسير بنظريّة الوزير فربّما نشهد على استفادة النّواب النوائب من تقديمات مشروع العائلات الأكثر فقراً بعد جهودهم في تشريع وإقرار القانون المعنيّ. كذلك يجهل الوزير أنّ المرجعيات الروحية التي ينوي اعطاءها اللقاح ليست محددة كمجموعة أساسيّة في آلية البنك الدولي وبالتالي لا اولويّة لها بتلقّي العلاج.
ولم يكتفِ وزير الصحة أن يُبخس حقّ اللجنة الصحيّة، بل اعتبر ان ما حصل من ردّات فعل فيها مبالغة و«ما بدا هالقد!». وحدها مسؤولة الأخلاقيات في اللجنة الوطنية للقاح الدكتورة تاليا عراوي ضربت أخلاق المسؤولين عن اللقاح بالصميم وعرّتهم من ورقة التوت، بعد أن أعلنت قرار استقالتها بلا تردد، في حين تراجع رئيس اللجنة الوطنية الدكتور عبد الرحمن البزري عن الاستقالة.
وليس معلوماً عدد الأشخاص الذين قد تلقوا اللقاح من دون أن يكون اسمهم وارداً على المنصة ومن دون أن يتمتعوا بالمواصفات اللازمة، الّا أنّ مذكرة صادرة عن التفتيش المركزي – المفتشية العامة الصحية والاجتماعية والزراعية كشفت أنّ ٦٢٤٠ شخصاً تلقوا اللقاح من خارج المنصة حتى التاسع عشر من شباط الجاري. أمّا نسبة اللّقاحات المنفذة خارج المنصة من العدد الإجمالي فقد تعدت الـ ٢٠ في المئة، ممّا يعني انّ ملفّ اللقاح طاله الفساد والمحسوبيّة كما غيره من ملفّات لبنانيّة.
بالنتيجة لقد كفر اللبنانيّون والمجتمع الدّولي بهذه الطّغمة الفاسدة التي سرقت حقوق كبار السنّ والمرضى في الحصول على اللقاح في هذا البلد، والتي لا ترتدع عن سحب الحقوق من أفواه أصحابها في تعبيرٍ مقزّز عن أنانيّة مفرطة وممارسة الزبائنية دون خجل او ورع. ولا يُمكن اعتبار تلقيح نوائب الأمّة وبعض الوزراء قبل غيرهم سوى شروعاً في القتل بقرارٍ «سياديّ» مُبتذل من وزيرٍ في حكومة تصريف أعمال ومن يقف خلفه، ما قد يؤدي الى تعليق القرض الدولي وحرمان اللبنانيّين اللقاح ورميهم في التهلكة.