IMLebanon

وزارة الاتصالات: المال السائب يعلّم الحرام!

      

منذ عام 2012، صارت النفقات التشغيلية لشركتي الخلوي على عاتق الدولة. وهذا الأمر فتح شهية وزراء الاتصالات على باب من أبواب هذه النفقات: عقود الرعاية. تلك أموال طائلة تسحب من مالية الدولة دون حسيب أو رقيب وتزداد عاماً بعد عام، حتى وصلت إلى 16 مليون دولار عام 2018. أما توزيعها، فبحسب الولاءات والمصالح السياسية والانتخابية

 

أول الكنوز التي ستقع بيد وزير الاتصالات الجديد، عقود الرعاية المرتبطة بشركات الخلوي. تلك عقود يديرها وينظمها الوزير كما يحلو له، بلا حسيب أو رقيب، انطلاقاً من كونها بنداً من بنود الموازنة التشغيلية التي تتحكم بها الوزارة. وتلك موازنة ليست بسيطة، بل تناهز قيمتها الـ 250 مليون دولار بالنسبة إلى الشركتين، معظمها مصاريف ثابتة، أبرزها الرواتب والإيجارات والصيانة والفيول وقطع الغيار…، لكن بعضها لا يكمن تصنيفه إلا تحت خانة المال السياسي. يكفي أن يطلب الوزير من شركتي «ألفا» أو «تاتش»، شفهياً في الغالب، دعم هذا المهرجان أو تلك الإدارة أو ذاك الفريق الرياضي… وهو ما يجعل الهامش المعطى للشركات لاختيار وسائل التسويق التي تراها مناسبة، يضيق إلى الحدود الدنيا.

لكن ألا يحق لهذه الشركات رفض الطلبات التي تأتيها من الوزير؟ هذا سؤال يحتمل إجابة على شاكلة نعم ولا. فالشركات يحق لها، نظرياً، أن ترفض لكونها هي من يقرر السياسة التسويقية ربطاً بمسؤوليتها وبتقديرها لحسن سير العمل، إلا أنها في المقابل ستضطر إلى تحمّل ضغوط كبيرة من الوزارة، أبرزها التهديد بعدم التجديد لها. فمسؤولو الشركتين غالباً ما يضعون في بالهم الإبقاء على علاقة جيدة مع الوزارة، كي يضمنوا التجديد عند انتهاء العقد. أما الأهم بالنسبة إلى هؤلاء، فهو: «الوزير يمثل الدولة اللبنانية صاحبة المال، وإذا لم يضع له مجلس الوزراء أو مجلس النواب حدوداً، فلماذا أفعل أنا؟».

هل هذا يعني أن الشركتين لم تكونا تضعان الرعاية كجزء من مصاريفها عندما كانت النفقات التشغيلية على مسؤوليتها (قبل عام 2012)؟ ذلك أمر كان نادراً جداً، ولا تتخطى قيمته آلاف الدولارات، فالشركات ليست مضطرة إلى الصرف من أموالها الخاصة على قطاع أسعاره محددة من الدولة ونمو زبائنه محدود. مع ذلك، إن تمتين العلاقة مع وزير الاتصالات كانت دائماً هاجساً لهذه الشركات. وعلى سبيل المثال، عندما كان الوزير جبران باسيل وزيراً للاتصالات، عمدت شركة ألفا إلى دعم مهرجان البترون بـ50 ألف دولار. لكن ما تغير بعد انتقال النفقات التشغيلة إلى الوزارة أيام الوزير نقولا الصحناوي، أن المسايرة صارت فرضاً لا خياراً. كذلك صارت الدعاية والرعاية التجارية بنداً حاضراً في الموازنات السنوية، ولم تعد تحسب بآلاف الدولارات، بل بالملايين منها. وذلك ليس توجهاً تجارياً من الشركتين، بل قرار سياسي من وزير الوصاية، الذي صار يملك سلطة مطلقة للتصرف بهذه الأموال.

عند تغيير طبيعة العقد في عام 2012، حدد بند الدعاية، بناءً على طلب من الوزير، بقيمة مليون دولار لكل شركة، على أن يُحدد هو وجهة صرفها. ثم سرعان ما بدأ هذا المبلغ بالازدياد، حتى صار بلا سقف ووصل في العام الحالي إلى 16 مليون دولار. القيمة الأكبر من هذا المبلغ، أي 10 ملايين دولار، ذهبت إلى شركة «سما» التي تملك حقوق بث «بي إن سبورتس» و«صاحبة حق» بث مباريات كأس العالم في كرة القدم. لا تزال المفاوضات التي تولاها وزيرا الإعلام والاتصالات مع الشركة في الأذهان. الانطباع الذي قدم للرأي العام، أنّ الحكومة تمكنت من إجبار شركتي الخلوي على دفع المبلغ المستحق، فيما الواقع أن الشركتين لم تدفعا شيئاً من كيسهما، بل من دفع هو الدولة اللبنانية، من أموال المواطنين، لكن من دون المرور بالأصول القانونية المتبعة في هذه الحالات، وبالتالي من دون إخضاع الصفقة لأي موجب رقابي.

 

رئاسة الوزراء بحاجة للدعم أيضاً

تبقى 6 ملايين دولار. هذه يسهل صرفها بوجود الطبقة السياسية الحالية. وهذا ما تؤكده الوقائع، التي يسهل تتبعها في فصل الصيف، فصل المهرجانات. فالعامل الوحيد الذي يحكم رعاية هذا المهرجان أو ذاك، هو طلب الوزير من هذه الشركة أو تلك، وطبعاً وفقاً لأجندة سياسية تراعي «تعميم الفائدة».

صحيح أن وزارة الثقافة هي في الغالب التي تدعم المهرجانات السياحية، إلا أن هذا لا يعني أن عقود الرعاية التجارية لا تشمل نشاطاتها. كل ما على وزير الثقافة أن يفعله هو الطلب من وزير الاتصالات الطلب من إحدى شركتي الخلوي رعاية الحدث، فتفعل الأخيرة. أقصى ما يمكنها فعله هو المماطلة وتأخير الدفع.

 

طلب رئيس الحكومة دعم نادي النجمة بـ200 ألف دولار من أموال الخلوي، أي من الخزينة

 

الدعم لا يقتصر على فئة من الوزراء أو السياسيين، الذين اعتادوا أخذ حصة من الكعكة الإعلانية للشركتين. اللوثة وصلت إلى رئاسة مجلس الوزراء. لكن الأخيرة لم ترضَ بالفتات. مليونا دولار حصلت عليها كاملة من الشركتين لتركيب Tech Hub في السرايا الحكومية. هذا المبلغ ليس بدلاً لـهبة أو تبرع، ولا قيمة تجهيز المركز من قبل الشركتين أو إحداهما. فالبرغم من أن إنجاز المركز من قبل الشركتين أو إحداهما قد يوفر الأموال على الخزينة لكونهما تملكان الخبرات اللازمة والطاقات البشرية لتنفيذ البشرية، إلا أن ذلك لم يكن هو المعيار. الأولوية للحصول على المبلغ عداً ونقداً. وهذا ما حصل. لكن مهلاً، ألا يستطيع رئيس مجلس الوزراء (سعد الحريري) أن يُعدّ اقتراحاً يعرضه على مجلس الوزراء لنيل موافقته على المشروع؟ أليس هذا هو الحل المنطقي الذي يفترض أن يلجأ إليه رأس السلطة التنفيذية، المفترض أنه الأحرص على حماية القانون وتنفيذ أصول صرف المال العام؟ أم تراه معنياً أيضاً بالهروب من الرقابة؟

 

كرة القدم وكرة السلة

ولأن للرعاية أوجهاً عديدة، فإن الرياضة تدخل من ضمن المال السياسي أيضاً. رئيس الحكومة، سعد الحريري، يريد أن يدعم نادي النجمة لأن رعاية بنك البحر المتوسط لا تكفيه لتغطية مصاريفه، فما العمل؟ الحل موجود دائماً في وزارة الاتصالات. اتصال من رئيس الحكومة بالوزير، ثم اتصال من الوزير بشركة «ألفا»: المطلوب أن تدفع الشركة 200 ألف دولار لنادي النجمة، بعدما سبق لشركة تاتش أن وقعت عقد رعاية مع نادي العهد. لكن ما فائدة الشركة من عقد الرعاية هذا، فيما الدوري اللبناني مسمى على اسم الشركة («دوري ألفا لكرة القدم»)، بوصفها الراعي الرسمي للدوري، وهي التي تملك عقود رعاية مع التلفزيون الذي يملك حق نقل المباريات، بقيمة 400 ألف دولار؟ لا إجابة مقنعة ما دام المعيار ليس تسويقياً. وللتذكير، فإن الأموال تُحسم من إيرادات وزارة الاتصالات التي يفترض أن تذهب إلى الخزينة، والتي تشكو الوزارة باستمرار من تراجعها. الحديث عن رعاية الشركتين للرياضة قد يطول أيضاً. في كرة السلة على سبيل المثال، فإن فريق الشانفيل، المحسوب على العونيين، يلعب برعاية ألفا، وفريق الحكمة المحسوب على القوات كان يلعب برعاية تاتش، وأخيراً فريق الهومنتمن، فيما فريق الرياضي المحسوب على المستقبل ترعاه أوجيرو، إضافة إلى ألفا… وهذا يعني عملياً أن مصدر التمويل للفرق الأربعة المحسوب كل منها على فريق سياسي هو واحد: الخزينة اللبنانية، وإن بمسميات مختلفة.

 

لا مصلحة تجارية للشركات

المبادرات الاجتماعية لا تنتهي أيضاً. من أولويات الشركتين دعم المبادرات الصغيرة. هذا كافٍ للاستفادة من الشركتين لدعم عدد كبير من المؤتمرات التي تقوم بها وزارة الاتصالات أو ترضى عليها. اللافت أن الوزارة تحرص على توزيع الجبنة، بشكل شبه كامل، وبما لا يغضب أحداً. لكن عندما يتعلق الأمر بالحصول على الأموال من الشركتين، فذلك يجري بالمناصفة: يطلب الوزير من هذه الشركة بمقدار ما يطلب من تلك. التشجير واحدة من أولويات وزارة الاتصالات أيضاً، وبالتالي فهو من أولوية شركتي الخلوي. ها هي «تاتش» جاهزة لتشجير 10 هكتارات في منطقة البقاع الغربي، برعاية وزير الاتصالات جمال الجراح، الذي يصدف أنه من البقاع الغربي. تماماً كما يصدف أن تفتح شركة تاتش نفسها مركزاً جديداً لها في المرج، قرية الوزير الجراح.

 

16 مليون دولار صرفها وزير الاتصالات من أموال الخلوي بلا رقيب

 

عقود الرعاية قد لا تكون جديدة. لكن تحويلها إلى حنفية مفتوحة على المصالح السياسية والانتخابية لا يبدو مستقيماً مع القانون، خاصة في دولة شبه مفلسة. لكن ألا تستفيد الشركات في النهاية من هذه العقود التي تُدفع من المال العام؟ عملياً لم يُترك لهذه الشركات أي حافز لتحسين أدائها المالي، بعدما ألغيت كل المحفّزات التي كانت تُعطى لها كلما خُفّض الإنفاق، أضف إلى أنها ترى وتتابع كيف يتصرف حماة المال العام بهذا المال من دون حسيب أو رقيب. لكن الأهم أن الشركتين ليستا في منافسة. فلكل منهما حصتها شبه الثابتة في السوق («تاتش» نحو 52 في المئة و«ألفا» نحو 48 في المئة)، والسوق شبه مشبعة. ولا حاجة فعلية للشركتين، تجارياً، لصرف الأموال على الإعلانات والرعايات، ما دامت تتقاضى مبلغاً مقطوعاً على الإدارة، إنما الحاجة هي حصراً سياسية مرتبطة بسلطة استثنائية معطاة لوزير الاتصالات.

 

 

2012: اكتشاف الكنز

في العام 2009، كان العقد الموقع مع الشركتين المشغلتين لشبكتي الخلوي ينص على أن تكون المصاريف التشغيلية على نفقة المشغّل وهذا يعني أن هذه المصاريف كانت جزءاً من المبلغ الذي تتقاضاه الشركتان بدل الإدارة. لذلك، بدا جلياً تجنّب الشركتين صرف مبالغ كبيرة بدل إعلانات وعقود رعاية، لعدم وجود فائدة تجارية كبيرة منها، في ظل سوق شبه مشبعة، تغيب فيها المنافسة الفعلية على اجتذاب مشتركين جدد.

في كانون الثاني 2012 كان يُفترض بالعقد أن ينتهي. تشكّلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في تموز 2011 وتولى وزارة الاتصالات فيها الوزير نقولا صحناوي. وقبل انتهاء مدة العقد، تم تمديده بعد تعديل بعض بنوده، بناء على طلب الوزير الجديد. أبرز ما طاوله التعديل كان البند المتعلق بالمصاريف التشغيلية. لم تعد هذه النفقات على نفقة المشغّل، بل على نفقة الدولة، فيما تكتفي الشركة بالحصول على مبلغ مقطوع بدل الإدارة (600 ألف دولار في الشهر)، يُضاف إليها مبلغ إضافي في حال نجحت في تحقيق مجموعة أهداف طُلبت منها (أهمها خفض المصاريف). وبالفعل، وافقت الشركتان، وسارتا بالعقد الجديد. كل منهما تضع موازنة سنوية تتضمن المصاريف التشغيلية المتوقعة وتعرضها على الوزارة، التي يُفترض أن تعطي موافقتها عليها، أو تضع ملاحظاتها. كان العقد ينص على العودة إلى الوزارة للحصول على الموافقة على صرف أي نفقة تزيد على 50 ألف دولار.

مع وصول الوزير بطرس حرب، لم تتغير طبيعة العقد، لكن تغير بندان فيه: ألغيت الحوافز المرتبطة بالأداء وخفض النفقات، وانخفض السقف المسموح به للصرف من دون العودة إلى الوزارة إلى 20 ألف دولار (بقي هو نفسه مع الوزير الحالي، على رغم محاولاته جعل الشركات تعود إليه عند عقد أي نفقة مهما كانت قيمتها).

لكن قبل هذا التعديل أو ذاك، ما الذي تغير فعلياً مع تغيّر طبيعة العقد منذ العام 2012، ولماذا تحمس الوزراء المتعاقبون منذ الصحناوي وصولاً إلى الجراح للإبقاء على المصاريف التشغيلية في يد الوزارة؟ لا تحتاج الإجابة إلى الكثير من الجهد فلبند الدعاية والإعلان والرعاية التجارية «معزّة خاصة» لدى هؤلاء.