خلال المفاوضات التي دامت تسعة أشهر لتأليف الحكومة، رفض التيار الوطني الحر إعطاء القوات اللبنانية منصب وزارة الدفاع، رغم أن نقاشات طويلة جرت حول السبب الذي يمنع القوات من تسلّم هذه الحقيبة. عزا التيار الأمر حينها إلى رفض حزب الله، لأسباب إقليمية ومحلية، وصول قواتي إلى وزارة الدفاع. ونسب القواتيون السبب إلى أن التيار يريد إبقاء جذوة الحرب الدامية بين القوات اللبنانية والعماد ميشال عون مشتعلة، رغم أن «الحرب لم تكن حينها مع الجيش، بل مع عون تحديداً». مع مرور أشهر المفاوضات، تمسك التيار بحقيبة الدفاع. فحنين رئيس الجمهورية الدائم إلى مؤسسة الجيش فرض أمراً واقعاً لا يمكن تخطيه، خصوصاً أنه سبق لعون أن طالب بهذا المنصب قبل توليه منصب الرئاسة كما منصب قائد الجيش، حين طرح أكثر من مرة اسم النائب الحالي شامل روكز لهذا المنصب. كانت انطلاقة البحث التفاوضي التخلي حكماً عن الوزير يعقوب الصراف، الذي تمسك به الحزب في إحدى مراحل التفاوض، وهو الذي لم يخذل الحزب يوماً منذ أن كان وزيراً للمرة الأولى. لكن الوزير جبران باسيل كان متشدداً أيضاً في رفضه، لأسباب تتعدى خلافات الصراف الدائمة مع قيادة الجيش.
مع وصول الوزير الياس بو صعب إلى وزارة الدفاع، بدا أن ثمة منعطفاً جديداً في وزارة لا أطر مرسومة بدقة لوزيرها، بل حدود مفتوحة على اجتهادات كثيرة. جاء كلام بو صعب في الأيام الأخيرة وكأنه إيذان بمرحلة جديدة، ترسم فيها سياسة الجيش والدفاع من منظار يتقاطع مع مصالح إقليمية ومحلية من دون مواربة، وهو الآتي من بلدة الزعيم المؤسس للحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعاده، نائباً مساهماً في تثبيت تمثاله. هو الذي كان رئيساً لبلدية الضهور – عين السنديانة حين افتتح معرض «العرزال إن حكى»، عام 2011، قائلاً إن المعرض الثقافي «موجّه لكل من لم يقرأ لأنطون سعاده، حتى يقرأ له كي يتعرف إلى أفكاره، وكي يكتشف المخاطر التي كان ينبّه منها الزعيم، ويقارنها بما يجري اليوم، وأن تعود به الذاكرة إلى مؤامرات الماضي التي حيكت ضد بلادنا، ويدرك ارتباطها الوثيق بمؤامرات الحاضر» («البناء»، 11/8/2011).
بو صعب نفسه الذي خلق جواً من التوتر مع القاعدة العونية حين تحدث عام 2018 عن حقبة الوجود السوري، نافياً أن يكون احتلالاً، ليسارع بعد العاصفة العونية إلى توضيح كلامه بأن «الحكومات المتعاقبة شرّعت الوجود السوري، على الأقل عبر جميع بياناتها الوزارية، لذلك لا يعتبر احتلالاً. أما أنا، الياس بو صعب، فلم أكن موافقاً على الوجود العسكري السوري في لبنان، ولم أكن موافقاً عليه وفرحاً به لأنه كان علينا أن نمرّ عبر الحواجز السورية للوصول إلى بلداتنا اللبنانية».
اليوم، وبعد الكلام الذي أدلى به في مؤتمر ميونيخ، وكلامه عن العلاقات اللبنانية السورية وزيارة سوريا، يمكن مجدداً الإطلالة على دور وزارة الدفاع بعد مرحلة استكانت فيها الوزارة سياسياً، بعدما تقدم فيها دور قادة الجيش في مرحلتي العماد ميشال سليمان قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية والعماد جان قهوجي. علماً أن سياسيين من القوى المسيحية كانوا دائما ينصحون بعدم التمسك بهذه الوزارة، ولو كانت سيادية، لأن الإمرة الفعلية في نهاية المطاف هي لقائد الجيش.
نصّ واجتهاد
لا نص محدداً يرسم لوزير الدفاع صلاحياته في قانون الدفاع. ثمة عبارات وبنود متفرقة، تعطي وزير الدفاع صلاحيات موزعة على مواضيع تتعلق بالجيش كمؤسسة أمنية وإدارية. لكن وزراء الدفاع ما بعد اتفاق الطائف، اختاروا أن يمارسوا صلاحياتهم، كل بحسب انتمائه السياسي واستناداً إلى تفسير نصوص بحرفيتها، أو أعراف بعضها كان يرتبط بشخصية وزير الدفاع نفسه.
بعد الطائف، أحد عشر وزيراً تعاقبوا على تسلّم حقيبة الدفاع، في ظل مرحلتين أساسيتين: إبّان الوجود السوري، وبعده. وهذا ليس تفصيلاً. يقول وزير الدفاع السابق ألبير منصور (في كتابه «الانقلاب على الطائف») الذي أُبعد لمعارضته طريقة تنفيذ اتفاق الطائف، وكان قد تسلم الوزارة في أدق مرحلة عاشها الجيش ولبنان بين الطائف وإبعاد العماد ميشال عون وانتخاب الرئيس الياس الهراوي رئيساً بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض، يقول إن حقيبتين أساسيتين، الدفاع والداخلية، تسلمهما «وزيران على تعاون وثيق مباشر مع المسؤولين السوريين». وهذا الكلام ينطبق تماماً على المرحلة الأولى التي امتدت حتى عام 2005، مع تعاقب كل من ميشال المر ومحسن دلول وغازي زعيتر وخليل الهراوي ومحمود حمود وعبد الرحيم مراد، على رأس الوزارة. ليليهم بعد ذلك في المرحلة الثانية كل من إلياس المر لثلاث ولايات، ثم فايز غصن وسمير مقبل ويعقوب الصراف.
تصرف كل وزير دفاع بحسب الظروف السياسية التي كانت سائدة حينها، وأعطى كل واحد منهم طابعاً شخصياً للحقيبة. منهم من سلّم الأمر لقائد الجيش، خصوصاً في مرحلة الوجود السوري، واكتفى بالمراجعات العادية، ومنهم من استفاد لناحية الخدمات المناطقية والسياسية، نظراً إلى الموقع الذي كان فيه سياسياً، وبعضهم استفاد منه لتعزيز موقعه السياسي في الداخل وإقليمياً. قد تكون تجربة آل المر، الأب والابن، أكثر تجربة فاقعة في الوزارة. الأول زمن الوجود السوري، والثاني في مرحلة تقاطع إقليمي ودولي حساسة، تخللتها محاولة اغتياله. كسب المر الابن من الوزارة كثيراً من الحضور السياسي، واستفاد أيضاً لتعزيز وضعيته، ونسج شبكة عسكرية داخلية، كما والده قبله، فنقلها معه إلى وزارة الداخلية، وكان حريصاً على الاحتفالية العسكرية الدائمة له. عدا أن أرثوذكسية المر الأب كما الابن، جعلتهما يرفعان مستوى تعاملهما السياسي في الوزارة، ويتعاملان معه كأعلى منصب أرثوذكسي واستثمار كل ما يحيط به من مكتسبات أمنية وعسكرية وخدماتية وسياسية، ولا سيما أن منصبي نائب رئيس الحكومة أو نائب رئيس المجلس النيابي لا صلاحيات لهما، (تماماً كما فعل لاحقاً مقبل خلال توليه الحقيبة نفسها، وما يُتوقع أن يفعله بو صعب أيضاً).
الصلاحيات القانونية لوزير الدفاع (راجع «الكادر») يمكن أن يتمسك بها وزير الدفاع حرفياً، وخصوصاً في ما يتعلق بالتعيينات وبانتقاء الضباط المناسبين والتدخل في عمل إعلام الجيش، كما حصل مع بعض الوزراء، ويمكن أن يتخطاها ليضع توقيعه على كل ما ترفعه إليه قيادة الجيش، أو يتعامل معها بواقعية بحسب الظرف السياسي، كما هي حال اختيار قائد الجيش. فالنص يقول: «يعيَّن قائد الجيش بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير الدفاع، ويرتبط مباشرة بوزير الدفاع». لكن حقيقة الأمر تخالف النص، لا وزير الدفاع يملك السلطة لاتخاذ مثل هذا القرار، ولا قائد الجيش يرتبط به عملياً.
أيضاً ثمة تجارب تدل على عدم مطابقة النص للأداء. فمنصور رفض أن يكون وزير الدفاع بالنسبة إلى قيادة الجيش توقيعاً لازماً لإتمام المعاملات المالية ليس إلا. هكذا أيضاً كان موقف الصراف الذي اشتكت منه قيادة الجيش مراراً لتوقيفه معاملات وتدقيقه في كل شاردة وواردة. في المقابل، ترك الصراف الإطار السياسي والعسكري لقيادة الجيش، فلم يتدخل فيه.
الوزير الجديد يرسم إطاراً مناقضاً: قيادة الجيش معنية بالأمور العسكرية، وهو معنيّ بسياسة المؤسسة والتعبير عنها دولياً وإقليمياً ومحلياً وعن حاجاتها العسكرية. من اللحظة الأولى صوّب الوزير الجديد على المؤتمرات الدولية، وعلى الإطلالات التي تسمح له باستثمار سياسي واسع، وعلى الكلام السياسي عن سوريا ولبنان والنازحين والإرهاب، من دون أن يتخلى عن فرض واقع إعلامي لجهة حضوره إلى قيادة الجيش وغرفة عمليات القيادة وتحويله الوزارة مقراً سياسياً وديبلوماسياً.
لكن بقدر ما أن خلفية بو صعب السياسية – القومية، وانتماءه إلى تكتل لبنان القوي، يجعلانه قادراً على الإطلالة من موقع سياسي على عالم يحمل الكثير من التناقضات، ثمة سقف لا يمكن أن يتخطاه، خصوصاً في ضوء كلام عن إحياء معاهدات مع سوريا، رغم أن التنسيق الأمني لم ينقطع بين قيادتي الجيشين اللبناني والسوري في ملفات محددة، لأن ذلك يتخطى صلاحية وزير الدفاع مهما كان انتماؤه، وأي أمر من هذا النوع يحتاج إلى ظروف سياسية مواكبة. علماً أن بو صعب محكوم أيضاً بحدود من داخل فريقه (إذا تخطينا واقع حزب الله وعلاقته بالجيش) لجهة وجود رئيس الجمهورية نفسه الذي لا تزال عينه على قيادة الجيش التي حرص على اختيار أركانها منذ اللحظة الأولى، ولا سيما أن القيادة منسجمة مع العهد في الخط السياسي نفسه. كذلك فإن هناك سقفاً آخر رسمه الوزير جبران باسيل، من خلال التعهد المسبق بالاستقالة للوزراء الذين اختارهم بنفسه، ووضع حدوداً سياسية لأيّ وزير ينتمي إلى كتلته، مع اعتراف سياسيين بأن بو صعب يملك هامشاً أوسع من غيره من زملائه، يسعى لتثبيته في علاقته العربية والحزبية الداخلية. لكن كل حدود مفتوحة تبقى رهناً بقرار سياسي لا يملكه، حتى الآن، أي وزير مهما علت رتبته في التيار. أقصى ما يمكن القيام به، تحويل الوزارة، لكونها وزارة أمنية مرصودة دولياً وإقليميا، إلى منصة لإطلاق مواقف وبالونات اختبار سياسية.
صلاحيات وزير الدفاع
بحسب المادة 15 من قانون الدفاع «تخضع وزارة الدفاع الوطني بجميع مؤسساتها لسلطة وزير الدفاع الوطني وهو مسؤول عن تنفيذ جميع مهامها». أبعد من ذلك يحدَّد دور الوزير برفع اقتراحات إلى مجلس الوزراء بعد التشاور مع قائد الجيش، أو اقتراح المجلس العسكري، كتعيين رئيس الغرفة العسكرية، وتعيين القضاة العسكريين وتعيين المدير العام للإدارة والمفتش العام (عضوان في المجلس العسكري) اللذين يرتبطان مباشرة بوزير الدفاع. وتنشأ غرفة عسكرية لدى وزير الدفاع الوطني يرأسها ضابط برتبة عقيد وما فوق وتشتمل على «أمانة السر، ودائرة الرقابة الإدارية، وتتولى، مراقبة قانونية الأعمال الإدارية في وزارة الدفاع الوطني، وممارسة صلاحية الرقابة المؤخرة على محاسبة الأعتدة والأشغال، ودائرة العلاقات العامة والإعلام، ودائرة الملحقين العسكريين اللبنانيين في الخارج، ودائرة الشؤون القانونية والقضاء العسكري، ودائرة العسكريين القدامى».
وفي صلاحيات المجلس العسكري أيضاً «يرفع المجلس العسكري إلى وزير الدفاع الوطني توصياته في شأن مشروع موازنة وزارة الدفاع الوطني، وتعزيز الدفاع وتعديل السياسة الدفاعية، وتسمية الملحقين العسكريين».