مع بدء العام الجديد، يُفترض أن تنطلق عجلات تأليف الحكومة مجدّداً. فيما الصيغ المطروحة لعدد الوزراء (بين ١٨ و٢٠ وزيراً)، تعني التضحية بوزارة البيئة عبر إلحاقها بوزارة أخرى وتسمية وزير واحد لهما. وهذا ما حدث في حكومة تصريف الأعمال الحالية، عندما دُمجت مع وزارة التنمية الإدارية بحجة أن مهماتهما تتقاطع في إدارة النفايات الصلبة. إذ تدير هذه الأخيرة – منذ أن تسلّمها الوزير كريم بقرادوني كـ«تنفيعة» – هبات من الاتحاد الأوروبي لإنشاء معامل صغيرة لإدارة النفايات خارج بيروت وجبل لبنان، فشل معظمها بسبب إخفاق الوزارة «الأمّ»، أي البيئة، في وضع استراتيجية شاملة وفرضها بقوة المنطق والعلم والعدالة البيئية.
دمج البيئة بالتنمية الإدارية، أو بغيرها، لم يكن (ولن يكون) استناداً إلى دراسة علمية لها مبرراتها، بل نتيجة التحاصص بين القوى المشكّلة للحكومة! صحيح أن أصواتاً كثيرة طالبت بالاستغناء عن هذه الوزارة بعد فشل الوزراء المتعاقبين ومديرها العام الدائم بالتقدم في أي من الملفات الأساسية التي تتولاها. إلا أن ذلك كان من باب النقد من أجل التغيير لا من أجل الإلغاء. فيما طرح آخرون استبدال الوزارة بالمجلس الوطني للبيئة وتوزيع مهامها على وزارات أخرى تتقاطع معها في كثير من الملفات. علماً أن هذا المجلس موجود في القانون ٤٤٤ منذ عام ٢٠٠٢ وقد تمّ تشكيله فعلاً بموجب المرسوم الرقم ٨١٥٧ عام ٢٠١٢. وهو، منذ ذلك الوقت، عقد ١٣ اجتماعاً لم تقدم أي خطوة في الملفات الخطيرة المعروفة، كونه بمثابة هيئة استشارية لوزارة البيئة من جهة، ولأنه أيضاً لا يحمل أي تصور استراتيجي لأيّ من قضايا البيئة ولا لملفاتها المتفرقة.
مع دخولنا سنة جديدة، بعد عام كان الأكثر كارثية بيئياً، سندخل مرحلة في غاية التعقيد لا يمكن تصور مدى مخاطرها على حياتنا وعلى حياة الأجيال المقبلة. فالمسألة في الانقسام بين من يرى النصف المليء من الكوب ومن يرى النصف الفارغ… بل باتت أكثر تعقيداً وتتعلق بنوعية المياه في النصف الملآن، لأنه قد يأتي يوم نتمنى فيه لو كان الكوب فارغاً تماماً.
قد يناقش البعض في أن الأولوية اليوم هي لمعالجة الأزمة الاقتصادية – المالية التي تتمثل في تبخّر ودائع اللبنانيين ومدخراتهم، علماً أن لهذا الأمر جانباً قانونياً لا يمكن أن يضيع وإن على مدى ليس بقريب… لكن، في المدى نفسه، يمكن أن تضيع أنواع وموارد ومقوّمات حياة لا تُعوض، لتتحول الأزمة هنا إلى أزمة وجودية. فبقدر ما يبدو ملحاً تشكيل حكومة، بقدر ما يفترض أن تكون هناك وزارة بيئة مؤتمنة على حماية الموارد وديمومتها وحفظ حقوق الأجيال المقبلة ببيئة سليمة. وكلما تعمّقت الأزمات في لبنان وتشعّبت، زادت الحاجة إلى وزارة بيئة فاعلة ومستقلة وأقوى من كل الوزارات، كونها وزارة حياتية مؤتمنة على المستقبل. ففي الأزمات الخطيرة، يعود الناس إلى غرائزهم الرئيسية كغريزة البقاء. وليس من يحمي مقوّمات البقاء وشروطه أكثر من هذه الوزارة. وكل تأخير أو تقصير في مقاربة هذا الملف هو بمثابة انتحار جماعي وارتكابات جرمية بحق الأجيال المقبلة التي يمكن أن تُحرم من كثير موارد الحياة الأساسية. فالتدهور الحاصل في نوعية الهواء والماء والتربة وأنواع السلع المنتجة أو المستوردة وزيادة النفايات على أنواعها وعدم معالجتها كل ذلك يعني تهديد شروط الحياة على المدى المتوسط وليس نوعيتها فقط. وما من أحد يمكنه معالجة هذا الموضوع الخطير سوى الدولة بمؤسساتها وإداراتها، وفي طليعتها وزارة البيئة. من هنا، لا يمكن تفسير مقاطعة الدول المانحة لدولتنا الفاسدة وتوجيه المساعدات إلى المنظمات غير الحكومية إلا لأنه جزء من المشكلة، لا بل تأبيدٌ لها. إذ يُفترض أن تكون هناك دولة ومؤسسات رسمية يمكن محاسبتها وليس مؤسسات غير حكومية هي بالتعريف تطوعية وغير ربحية وغير منتخبة من المجتمع… وبالتالي غير مسؤولة وتصعب محاسبتها.
على أي حال، فإن معيار الاتكال على ما هو غير حكومي في تولي مسؤوليات في إدارة الشأن العام، وفي طليعتها البيئة، هو حالياً في مدى استعدادها للانتخابات النيابية المقبلة عبر التجمع ضمن أطر ثورية عابرة للمناطق والطوائف والمصالح والاختصاصات والأنانيات والادّعاءات الفارغة، واختيار هيئات تمثيلية منتخبة… ووضع برنامج حكم بديل على كل المستويات مع استراتيجيات شاملة، فشلت السلطات المتعاقبة في وضعها، أو تقصّدت ذلك، تمهيداً لاستباحة كل ما هو عام من أملاك وفضاء وبحر ونهر ومياه وموارد… واستغلالها واستنزافها لمصالحها الخاصة، متسبّبة بالإفلاس العام على كل المستويات. مع العلم أيضاً أن إدماج غير الحكومي مع النشطاء السياسيين غير «الانجووزيين» يبدو ضرورياً للنجاح في المرحلة المقبلة، خصوصاً لمن ينشطون في الشأن العام من دون تمويل ولديهم الرؤية الشاملة والقدرة على التفكير المجرّد والهادف.