تشكّل وزارة المال اختباراً، ليس فقط للمبادرة الفرنسية، إنما للدور الذي يطمح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى أن يؤديه في لبنان ومن خلاله مع طهران.
يفترض أن يشكّل الرئيس المكلّف مصطفى أديب حكومة مصغرة من وزراء اختصاصيين لا تأثير في اختيارهم للقوى السياسية على اختلافها، وان تعتمد المداورة في توزيع الحقائب خطوة ضرورية على طريق تطبيق الدستور الذي لا يلحظ في نصوصه مبدأ المداورة لأيّ وزارة، ومن ضمنها وزارة المال التي آلت إلى الطائفة الشيعية في السنوات الأخيرة.
ولا يختلف الخلاف الذي وقع مع انطلاق عملية التأليف عن الخلافات التي كانت ترافق تشكيل كل الحكومات، بدءاً من حجم الحكومة التي تريدها بعض القوى السياسية واسعة وفضفاضة من أجل توزير المحسوبين عليها، مروراً بإصرار البعض أيضاً على الاحتفاظ بالحقائب نفسها التي حوّلوها وزارات خاصة لا عامة قاطعين الطريق على مبدأ المداورة، وصولاً إلى الجهة التي تسمّي الوزراء في ظل رفض فريق 8 آذار تشكيل سابقة أن يسمّي الرئيس المكلف الوزراء الذين يجب، في رأيه، أن تسمّيهم الكتل التي فازت في الانتخابات وان تتمثّل وزاريّاً وفقاً لحجمها النيابي.
وفي موازاة العقد الخلافية أعلاه، تبقى العقدة الأبرز المتمثلة بوزارة المال التي يتمسّك بها الثنائي الشيعي ورفعها إلى مصاف الوزارة الميثاقية الخارجة عن أي نقاش وواضعاً إيّاها بمثابة الرئاسات الثلاث، وانّ المداورة التي يؤيدها تقف عند حدود هذه الوزارة التي تم الاتفاق حولها في مؤتمر الطائف، وقد ذهب الرئيس نبيه بري إلى حد الجزم والحسم بأن «لا مجال للبحث في موضوع وزارة المال، وليراجعوا محاضر الطائف»، ومعلوم انّ هذه المحاضر موجودة في عهدة الرئيس حسين الحسيني الذي يرفض الكشف عنها أو نشرها.
ولكن من بقي على قيد الحياة من النواب الذي شاركوا في «اتفاق الطائف» او من الذين دَوّنوا مذكراتهم يخالفون وجهة نظر بري، ويؤكدون انّ هذا الأمر لم يكن موضع توافق إطلاقاً وانه أُثير عرضاً، ولم تكن الطائفة الشيعية أساساً في وارد ان تتخلى عن وزارة اتفق على ان تؤول إليها لو فعلاً حصل ذلك، والرواية عن تدخّل سوري تم التنازل بموجبه عن وزارة المال للرئيس رفيق الحريري غير دقيقة، فيما تعاقب على هذه الوزارة أكثر من وزير سني وغير سني قبل العام 2005 وبعده، وبالتالي لماذا هذه الاستفاقة اليوم بالذات وهذا الإصرار المفهوم وغير المفهوم؟
وما ينطبق على وزارة المال ينسحب على موضوع سلاح «حزب الله» الذي ربط فيه نزاع ايضاً من زاوية انّ اتفاق الطائف مَيّز بين سلاح الميليشيات وسلاح المقاومة، فيما لا تمييز على هذا المستوى، والنص لم يأت على ذكر المقاومة خارج إطار الدولة، وبالتالي موضوع المقاومة يندرج في السياق نفسه لوزارة المال لجهة محاولة تكريس أعراف جديدة غير منصوص عليها دستوريّاً.
وفي سياق آخر هناك من يعتبر انّ إغراق الرئيس المكلف بشروط عدة، وفي طليعتها تسمية كل فريق لوزرائه، يرمي إلى رفع سقف المطالب والشروط إلى حدها الأقصى من أجل التنازل عنها لاحقاً والتمسّك حصراً بوزارة المال، ورئيس الجمهورية يعتمد التكتيك نفسه وصولاً عند السقف الذي يريده وهو تسمية بعض الوزراء والاحتفاظ ببعض الحقائب.
وبالعودة إلى المبادرة الفرنسية، فكل فلسفتها ترتكز على فكرة أساسية وهي تشكيل حكومة استثنائية ربطاً بالوضع الاستثنائي القائم، هذا الوضع الذي يستدعي تجاوز كل الطرق التقليدية والكلاسيكية في التأليف، وبعد تجاوز الأزمة المالية يكون لكل حادث حديث، لأنّ باريس لا يمكنها إنقاذ لبنان إذا كانت السلطة التي أوصلت البلد إلى الانهيار تتمسّك بمواقع نفوذها وتريد ان تواصل قواعد العمل نفسها.
ويأخذ البعض على الرئيس الفرنسي أنّ دخوله المشكور لإنقاذ لبنان كان يجب أن يتضمّن شروطاً قاسية على فريق السلطة بسبب مسؤوليته عن الأزمة المالية بأن يلزم هذا الفريق مثلاً بالانتخابات النيابية المبكرة التي وحدها تصحّح الخلل في الأداء والممارسة، الأمر الذي لم يحصل إلى درجة انه قيل انّ المبادرة الفرنسية جاءت لتعوِّم فريق السلطة الذي كان على قاب قوسين من السقوط، وأكثر القوى سروراً بهذه المبادرة كان «حزب الله» الذي استُقبل على أرض فرنسية، وانتزع من ماكرون تمييزاً بين الشق العسكري للحزب والشق السياسي المنتخب الذي لا يمكن تجاوزه، كما إعلانه عدم تمسّكه بالانتخابات المبكرة لأنّ الحزب يرفضها، وبالتالي عدّت كل هذه المواقف مسايرة للحزب.
وفي هذا المجال تحديداً، هناك نظرية تقول انه في حال احتفظ الثنائي الشيعي بحقيبة وزارة المال فهذا يعني انّ هناك «قبّة باط» فرنسية، وانّ باريس لا تريد ان تصطدم بهذا الثنائي ومن خلفه طهران، بل تسعى إلى مراكمة الثقة معه بأنها الوسيط النزيه القادر على تخريج التسوية التي لا تتناقض مع توجّهاته تهيئة للمرحلة المقبلة او التسوية النهائية، فهي لا تريد أن تلعب دور واشنطن التي تقطع الجسور مع طهران و»حزب الله»، إنما مواصلة دورها الذي يتيح لها التواصل مع هذا الفريق بما يفسح في المجال أمامها برعاية الملف اللبناني.
فلا يوجد ما يلزم باريس على التساهل مع الثنائي الشيعي او غيره في حقيبة وزارة المال او اي حقيبة أخرى، إذ هناك مبادرة ببنود معلنة وشروط واضحة، فإمّا أن يلتزم هذا الثنائي ومن معه وجميع القوى السياسية ببنود هذه المبادرة وروحيتها، وإمّا ان تتخلى الرئاسة الفرنسية عن دورها وليتدبّر لبنان أمره بنفسه، وهي غير مضطرّة للمساومة ولا المسايرة لا سيما انّ التسوية الحكومية بِحد ذاتها تخدم هذا الفريق من زاوية استمراره في السلطة، وبالتالي من غير المنطقي ولا الجائز ان ترضخ دولة كبرى راعية لحل إنقاذي لشروط هذا الفريق او ذاك، لأنّ أي رضوخ بحجّة اي عنوان يعني خضوع الراعي للابتزاز واهتزاز التسوية قبل انطلاقتها.
ومن الثابت انّ الثنائي الشيعي يريد عن طريق تمسّكه بوزارة المال تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة:
ـ الهدف الاول، انتزاع اعتراف فرنسي، أي دولي، بأنّ وزارة المال هي للطائفة الشيعية، وربط النزاع الذي يتولّاه هذا الفريق في هذا العنوان تحت سقف المبادرة الفرنسية يرمي إلى حسم هوية وزارة المال برعاية فرنسية، وفي حال نجح في انتزاعها هذه المرة يعني تحول حقيبة وزارة المال حقيبة للشيعة.
– الهدف الثاني، الرد على العقوبات الأميركية من خلال التمسّك بوزارة المال، حيث انّ الخزانة الأميركية بَرّرت في حيثيات قرار العقوبات على الوزير السابق علي حسن خليل انه استغلّ منصبه في وزارة المال لدعم «حزب الله»، فيأتي التمسّك بالوزارة كرد مباشر من «حزب الله» على واشنطن، ولكن هل تقبل باريس أن تكون صندوق بريد لمصلحة طهران ضد واشنطن؟
-الهدف الثالث، توجيه رسالة إلى قواعده وسائر اللبنانيين بأنه ليس في موقع ضعف كما يتم تصويره، بل في الموقع الذي يفرض شروطه على القوى المحلية والخارجية، وانه لا يمكن لأيّ تسوية ان تتحقق من دون موافقته وشروطه، فضلاً عن انّ قواعده في حاجة الى جرعة معنويات في ظل الحصار والعقوبات.
ويبقى انه في حال وافقت باريس على إبقاء وزارة المال بيَد وزير شيعي يسمّيه الثنائي الشيعي من خلال لائحة يرفعها للرئيس المكلف لاختيار شخصية من بينها، فهذا يعني انّ أولوية باريس تتجاوز التسوية الحكومية إلى التسوية النهائية التي تستدعي انتزاع ثقة طهران من أجل أن تكرِّس دورها كراع «عادل ونزيه» في منطقة تُعاد هندستها من جديد، وتريد فرنسا أن يكون لها موطئ قدم فيها انطلاقاً من لبنان.