Site icon IMLebanon

وزارة الخارجية: طغيان حزبي وتعسّف… وتفرّد بالقرارات

 

 

الأمور ليست على ما يرام في أروقة وزارة الخارجية. ولائحة الاختلالات كما يشير أكثر من مصدر مطّلع تطول: انهيار على الصعيدين اللوجستي والخدماتي؛ سوء إدارة وتعيينات عشوائية؛ زبائنية في توزيع المهام؛ ربط الفئات بالتشكيلات؛ خلط بين السفر الخاص والمهمات؛ غياب كامل للإصلاح؛ تكريس انقسام الجمعيات الاغترابية؛ استقبال سفراء وهميين؛ عدم إجراء تشكيلات؛ ربط المهام بالانتماءات الطائفية والسياسية؛ تطبيع العجز والتعايش مع مفهومه؛ انعدام المساواة في الحقوق والرواتب وتعميم مبدأ «الاستعطاء»؛ تواجد أشخاص وهميين ومنتحلي صفة «سفير»؛ ولجنة إدارية تجمع أعضاءها الشكاوى والمحاكم.

 

نقاط تكررت بحسرة على ألسنة دبلوماسيين عدّة. هي الوزارة التي يُفترض أن تكون رائدة في رسم ووضع الخطوط العريضة للسياسة الخارجية، وبلورة كافة المواقف الوطنية في ما يخص القضايا الدولية والإقليمية. لكنها تتحوّل باطّراد ومنذ سنوات إلى انعكاس واضح للتركيبة والتوازنات السياسية والدستورية في لبنان. فماذا عن تخطي دور الوزارة وتهميشها؟ ماذا عن المحسوبيات والزبائنية؟ وهل فعلاً باتت، كما يقول البعض، مجرّد صندوق بريد شكلي وبروتوكولي، لا أكثر؟

 

وزارة أو خليّة حزبية؟

 

ثمة اعتقاد راسخ أن دور الوزارة بدأ بالتراجع الملموس منذ سنة 1998. عن هذا يقول وزير الخارجية الأسبق، فارس بويز، والذي غادر الوزارة في تلك السنة، لـ»نداء الوطن» إنّ وظيفة الوزير في الأساس هي استنباط موقف وطني موحّد وتسويقه في الخارج. من هنا عليه تحييد وزارته عن الاعتبارات والخلافات الداخلية، لا بل استنتاج سياسة موحّدة يجمع حولها كافة الفرقاء. أما الوزارة، فهي المؤسسة التي تُعنى بآلية تسويق هذه السياسة الموحّدة بالطرق الدبلوماسية وبحسب الأصول التي تضمن أفضل العلاقات بين لبنان وأكبر عدد من دول الخارج. ويضيف: «ما حصل هو عكس ذلك. فمن الناحية المبدئية، اختلطت داخل الوزارة المصالح الداخلية والفئوية والطائفية والسياسية بالهدف وبالمبدأ، لذا تعطّل القرار الداخلي وأصبح من الصعب توحيد السياسة الوطنية. كل ذلك نتيجة تفكك السياسة الداخلية وعجز الوزراء عن إيجاد سياسة موحّدة».

 

كيف انزلقت الوزارة في متاهات اللعبة السياسية؟ «على وزارة الخارجية أن تكون خارج إطار هذه اللعبة، وهذا ما يقتضي على الوزير خوض معارك كالتي خضناها وما زلنا ندفع ثمنها من أجل تصنيفات وتشكيلات داخلية بعيدة عن الاعتبارات السياسية الفئوية. لكنها تحولت إلى حزب سياسي أو خلية حزبية، فأصبح المقرّبون من الوزير هم أصحاب المناصب بدلاً من أن تكون الخبرة والكفاءة والمعرفة هي المعيار»، كما يجيب بويز.

 

المساواة في خبر كان

 

نسأل دبلوماسيين طلبوا عدم ذكر أسمائهم لنستشف أسباب صرختهم، فيعود أحدهم إلى الاستحقاق الانتخابي الأخير، حيث أشار إلى تسجيل طغيان ملحوظ للون حزبي واحد على مركزية اتخاذ القرارات ضمن هيئة الانتخابات. ويتابع: «لقد ظهرت المحسوبيات في اللجنة المشرفة على تنظيم الانتخابات وفي توزيع المكافآت حسب الانتماءات. منهم من وعدهم الوزير بمهمات ولم يُنفِّذ وعده، حتى أنه لم يمنحهم أي تنويه. أما آخر علامات التمييز فكانت من خلال منح مدير المغتربين في وزارة الخارجية، السفير هادي هاشم، وسام الأرز الوطني برتبة ضابط رغم أن دوره لم يكن محورياً».

 

آخر يتحدث عن أن الوزارة تكاد تكون الوحيدة في العالم التي لا تتمتع بنظام قانوني ملزم لإرساء تشكيلات دورية ومنتظمة، وهذا ما زاد من حدّة الظلم واللامساواة بين دبلوماسيي الوزارة ودبلوماسيي الخارج، إن من ناحية الاستقرار والإنتاجية أو من الناحية المهنية والمالية والإدارية والنفسية. كيف ذلك؟ «لم يراعِ الوزير الحالي تأثير تقاضي العاملين في الخارج بالدولار في حين أننا، في الداخل، ما زلنا نتقاضى رواتبنا بالليرة. هذا وقد تمّ تمديد العقود مع الملحقين الاقتصاديين رغم تحفّظ بعض الجهات المعنية بالملف. فتعيين هؤلاء وتجديد عقودهم سنوياً يشكل مثالاً صارخاً عن المحسوبيات وتقاسم الغنائم بين حزبين أساسيين في البلد، «التيار الوطني الحر» و»حركة أمل»، كما يلفت أحد الدبلوماسيين.

 

 

 

شغور ومماطلة

 

بدوره، أدّى شغور القسم الأكبر من المديريات إلى تراجع العمل في الوزارة. وتعود الأسباب إلى إرسال العديد من السفراء في مهمات خارجية مفتوحة، على غرار السفيرة فرح برّي التي ستُكمل ثلاث سنوات في قطر، والسفير خليل خليل الذي سيُكمل أربع سنوات في إندونيسيا. ثم هناك غياب التشكيلات الدبلوماسية الدورية والمنتظمة واضطرار السفراء الذين تمّ «سجنهم» في الإدارة القبول بمهمات مفتوحة كتعويض جزئي عن الضرر المادي جراء الظلم الذي لحق بهم. هنا لا بدّ من أن نعرّج على بعض المخالفات الفاضحة، ومنها تجاوز بعض السفراء مدة الـ11 سنة دون تغيير، على غرار سفير لبنان في لندن، رامي مرتضى، أو مماطلة تسليم بعض الدبلوماسيين لمهامهم في الخارج منذ العام 2019، وذلك لأسباب سياسية. ناهيك عن أنّ أربع بعثات من حصة المسيحيين ما زالت شاغرة حتى اليوم ولم تتم معالجة الفراغ المترتب عنها لا من خلال مهمات ولا حتى تعيينات.

 

الوزير مقيَّد

 

شاذ ومخجل. هكذا يجمع جميع من تواصلنا معهم في توصيفهم للواقع داخل الوزارة. حاولنا الاتصال بالوزير الحالي، عبدالله بو حبيب، لسماع رأيه واستيضاح موقفه، فأتتنا الإجابة على لسان مستشارته بأنه خارج البلاد. نستعيض عن الاتصال بإرسال أسئلتنا مكتوبة علّنا نوفَّق، لكن الإجابات لم ترِد حتى تاريخ كتابة هذه السطور.

 

على أي حال، يخبرنا أحد الدبلوماسيين أن شخصية الوزير وعلاقاته الدبلوماسية تلعب عادة دوراً محورياً في تذليل أي مأزق بنيوي تواجهه الوزارة، لناحية إنجاز التشكيلات الدبلوماسية في موعدها أو غيرها. ويشير: «يقوم الوزير الحالي بمقاربة الملفات باستنسابية وخفة لافتة. فمن جهة يعتبر نفسه مقيّداً بمرجعيات سياسية، في حين أنه يقوم بالمقابل بتعيينات ومنح مهمات وفقاً لما تقتضي المصالح الشخصية».

 

في هذا السياق، يشبّه بويز أداء الوزير بالـOne man show، حيث أصبح هو كل شيء في وقت أُلغيت فيه الوزارة كمؤسسة. «الوزير ينفرد بلقاءات ويشارك في مؤتمرات محيّداً طاقم الوزارة، ما أدّى إلى إلغاء دور الأخيرة كمؤسسة منوط بها مواكبة القرارات».

 

خلل في التواصل

 

الأكثر استغراباً في مسيرة الوزير الحالي، كما يلفت أحد البلوماسيين، هو إصداره تعميماً للبعثات، بموافقة كل من الأمين العام، السفير هاني الشميطلي، والسفير هادي هاشم، يجيز طلب المساعدات من الجاليات، ما ينسف هيبة السلك الدبلوماسي ويسمح للبعض بتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة، علماً أن هذا التعميم يخالف قواعد قبول الهبات التي نظّمها القانون بوضوح.

 

من وجهة نظر بويز، هناك ضرورة لأن تكون الوزارة في تعييناتها وتشكيلاتها وزارة لكل لبنان وليس لفريق معيّن، وأن يكون لها مشاركة مؤسساتية حثيثة في كل الأعمال الخارجية. ويردف: «حتى أن لقاء السفراء واتصالهم بوزيرهم أصبح شبه معدوم مع انقطاع السفارات عن الوزارة الأم، فأصبحت التعليمات تذهب بالمباشر وليس بالرسمي، ما أسقط من هيبة سفاراتنا في الخارج وشرّع للدول الأجنبية استضعاف وعدم احترام السفراء اللبنانيين بشكل أو بآخر».

 

زمن الأوسمة

 

بالعودة إلى الأوسمة، حاز الأمين العام للوزارة، السفير الشميطلي، الشهر الماضي على وسام الاستحقاق «المذهّب». وهو الأمر الذي انتقده بعض من تواصلنا معهم لاعتبارهم أن أداء الشميطلي شكّل صدمة لمعظم أعضاء السلكين الإداري والدبلوماسي، بسبب «التعسّف المتمادي» في استخدام السلطة كما في تفسير القوانين. وقد تجلّى ذلك من خلال إلغاء الحقوق المكتسبة لأصحابها وإلحاق الضرر المقصود للبعض الآخر بعد استفادته من نفس الحقوق والأعراف، كما يطلعنا أحد الدبلوماسيين، الذي قال: «لم يقم الشميطلي بأي تحديث قانوني أو إداري خاصة لنظام وزارة الخارجية الصادر عام 1970 والقابع في مكتبه منذ أربع سنوات دون سبب مشروع». هذا في حين يلفت دبلوماسي آخر أن الدليل على سوء إدارة الشميطلي هو علاقته المتردية مع غالبية أفراد السلك الدبلوماسي والإداري، مشيراً إلى عدد من الدعاوى المقدّمة ضده والعالقة أمام المحاكم.

 

مقترحات ولكن

 

يعزو بويز الأسباب التي أوصلت الوزارة إلى ما هي عليه إلى اثنين: الأول داخلي ناتج عن التفكك بالخط السياسي الخارجي في لبنان، والثاني مرتبط بأنانية البعض وتفرّدهم بالرأي ما يحول دون ممارسة سياسة الوزارة بشكل مؤسساتي. ما الحلّ إذاً؟

 

يرى بعض المراقبين أن الحل يكون عبر مجموعة إجراءات، منها: تحديث نظام الوزارة ودليل الأعمال القنصلية وإعداد جيل من الدبلوماسيين المحترفين؛ إجراء تشكيلات دورية ومنتظمة على أساس تقييم علمي تفادياً لمزيد من التنازلات من قِبَل الدبلوماسيين للجهات الحزبية؛ إنشاء مديرية خاصة تُعنى بإدارة الأزمات ومديرية جديدة تُعنى بشؤون الاغتراب لتحلّ محلّ مبادرة الطاقة الاغترابية اللبنانية (LDE) التي تمّ إنشاؤها خارج الأطر القانونية؛ سحب كل الاعترافات المشبوهة بما تبقّى من الجامعة الثقافية اللبنانية في الخارج، مع العلم أنها مشرذمة ومنقسمة وقد جرى الاعتراف بها بطريقة مفاجئة وغير مدروسة؛ التوقف عن إعطاء أدوار وهمية ومكانة غير مستحقة لأشخاص منتحلي صفة وإبعادهم عن مكتب الوزير أو دائرته حفاظاً على سمعة الوزارة وهيبتها، إضافة إلى منح الدبلوماسيين الدور الذي يليق بهم والذي من أجله تمّ اختيارهم بناء على مباريات أجريت وفقاً للأصول في مجلس الخدمة المدنية.

 

ليس سرّاً أن النزاعات والصراعات التي عرفها لبنان، حتى قبل الاستقلال، ارتبطت بشكل وثيق بمشكلة الخيارات الخارجية. «وحدها سياسة وطنية موحّدة في وزارة الخارجية تستطيع إخراج لبنان من أزماته. فمن شأن السياسة اللبنانية الخارجية إمّا تفجير الأوضاع الداخلية أو توحيد الصفوف في حال أُحسن اختيارها»، يقول بويز خاتماً.