Site icon IMLebanon

وزارة الخارجية: الجمر يتأجّج تحت الرماد

 

التجاوزات تتواصل كما الصيف والشتاء الإداريين تحت سقف واحد

ليس في تناول ما يحصل في أروقة وزارة الخارجية إبراء لأي وزارة أو إدارة أخرى. فجميع أعمدة الدولة مترنّحة إن لم تكن سقطت بعد. لكن وزارة الخارجية هي مرآتنا العاكسة على أقاصي العالم غير المفتون أصلاً بـ»إنجازاتنا». نجاحها يسرّع في تجميل الصورة وفشلها يمعن في تشويهها. لسنا أول من يلقي الضوء على حالة الترهّل والتكلّس الإداريين هناك ولن نكون الأخيرين طبعاً. لكن بما أن قاموس التصحيح والمعالجة مُغلق بإحكام، لا ضير من المزيد من الإضاءة.

سبق وتطرّقنا في «نداء الوطن» إلى المحسوبيات والظلم المجحف الذي يطاول دبلوماسيي الإدارة مقارنة مع دبلوماسيي الخارج. وأشرنا إلى المهمات الخارجية المفتوحة وغياب التشكيلات الدبلوماسية الدورية والمنتظمة وتجاوز الكثير من السفراء في الخارج مهلهم القانونية. هذا من دون أن ننسى ممارسات التفرّد في التعاطي وإلغاء دور الوزارة كمؤسسة أنيطت بها مواكبة اتّخاذ القرارات وصنعها. لكن التبريرات ما زالت تأتي من باب رفع العتب على منوال «العين بصيرة واليد قصيرة».

 

قد يكون في ذلك شيء من الصحة طبعاً. لكن أكثر ما لا يقنع دبلوماسيين عديدين في الإدارة هو النقص الحاد في منسوب جدّية التعاطي على أقل تقدير. الجمر، كما يقول هؤلاء، لا يحرق إلا مكانه ومن يده في النار ليس كمن يده في الماء. الهدوء السائد في الوزارة في الآونة الأخيرة هو أشبه، برأي البعض، بالهدوء الذي يسبق العاصفة. والبوادر لا تنذر بالخير.

 

الخارج “بسمنة” والداخل “بزيت”

 

نبدأ – لا بل نعود – مع التشكيلات الدبلوماسية التي ما زالت مُستبعدة حتى إشعار آخر. هذا في حين تشير مصادر وثيقة الاطّلاع إلى استمرار تذرّع الوزير عبد الله بو حبيب بحُجج واهية لعدم إتمامها في ما يُعدّ تجاهلاً للقوانين المرعية والأعراف. إحدى تلك الحُجج قد تكون مفهومة، وهي عدم توافر المال. لكن ما رشح من معلومات مؤخراً عمّا ذكره الوزير أمام دبلوماسيين من الدفعة الأخيرة بأن «لا تشكيلات حتى الآن لأن لا توافق سياسياً حولها» يشي بما هو أبعد. وتسأل المصادر: متى كان التوافق السياسي ناجزاً في لبنان وهل، في حال كان غائباً (وهو كذلك)، يتحوّل الوزير ضيف شرف في وزارته؟

 

قضيّة الملحقين الاقتصاديين تتوالى فصولاً هي الأخرى. فقد أعرب بو حبيب، كما تنامى أيضاً، أمام وفد من الدبلوماسيين أن من غير الوارد المساس بوضعية هؤلاء، رغم أنهم معيّنون من خارج مجلس الخدمة المدنية وخلافاً لقانون منع التوظيف في الإدارات العامة، ويكبّدون الخزينة نفقات باهظة بالدولار الأميركي دون مردود يُذكر. لماذا؟ بكل بساطة، بحسب المصادر، بسبب الوساطات السياسية ودعم المرجعيات النافذة في الوزارة لهم. وهو ما اعترف به بو حبيب خلال اللقاء مع الوفد. وتتابع المصادر نفسها أن ثمة نيّة لتثبيت ما بين 10 إلى 12 ملحقاً اقتصادياً في القريب العاجل.

 

أما في ما خص الدبلوماسيين في الخارج، ليس سرّاً أن هناك مجموعة واسعة منهم ممّن تخطّت مهمّتهم المهلة القانونية. ويرى هؤلاء في العودة إلى الإدارة في لبنان مسألة حياة أو موت لذا هم مستعدّون لفعل أي شيء من أجل البقاء في البعثات الخارجية. ومن أبرز الأسماء: السفير رامي مرتضى في لندن الذي يحظى بحماية سياسية تؤهّله البقاء في الخارج إلى أجل غير مسمّى؛ المستشارة رانيا عبدالله في اليونان التي فَسخت عقد الإيجار كي لا يتمّ تعيين أحد مكانها. وقد جرى إرسال مدير الشؤون الإدارية والمالية، السفير كنج الحجل، في مهمة مؤقّتة إلى اليونان مع تواجد عبدالله هناك، بحيث استأجرت له الوزارة منزلاً بقيمة 17 ألف دولار أميركي رغم عدم توافر الاعتمادات وسياسة التقشّف المعتمدة؛ دبلوماسيو الاسكندرية والنجف وسيراليون الذين تخطّت مهلة مهمّتهم في الخارج السنة؛ دبلوماسيو قطر وإندونيسيا الذين تخطّوا السنوات الثلاث؛ أما القنصل المتواجد في ملبورن، فقد صدر قرار عودته منذ العام 2019 لكنه بقي حبراً على ورق حتى الساعة.

 

أسفار بكُلف عالية

 

رواتب الدبلوماسيين في الإدارة تراجعت إلى ما دون الـ80 دولاراً شهرياً. وهنا تكثر الشبهات – والأحاديث – حول استخدام وصرف المال العام في الوزارة بطريقة غير قانونية. فقد اشتكت مصادر مواكبة خلال تواصلنا معها من التبذير الواضح في سفرات الوزير بغطاء رسمي والتي سُدّدت، كما علمنا، من أموال القنصلية في مرسيليا والسفارة في واشنطن. وتجدر الإشارة إلى ما حصل في سفرة الوزير الأخيرة إلى نيويورك (في أيلول) حيث اختار والوفد المرافق له فندقاً بلغت تكلفة الإقامة فيه لليلة واحدة 800 دولار أميركي، رغم توافر البدائل الأقل كلفة. وهذا ليس سوى تكملة لمسلسل الصرف الحاصل من جولات بروكسل إلى باريس (أيار الفائت). أكثر من ذلك. فهناك حديث عن استئجار مكاتب للسفارة اللبنانية في ألمانيا بقيمة تجاوزت الـ130 ألف يورو – علماً أن سفير لبنان هناك هو الأعلى دخلاً من خارج الملاك.

 

فماذا عن تمويل الرحلات إلى الخارج؟ المصادر المطّلعة عينها أفادت بأن هناك تحايلاً على مبادئ المحاسبة العمومية والتفافاً على الموافقة المسبقة الموجبة من وزارة المالية ومجلس الوزراء في حالة تصريف الأعمال. إذ تمّ تسديد بدل مهمّات الوزير والوفد المرافق له بالدولار الأميركي من حساب البعثات في الخارج، وليس بالليرة اللبنانية عبر حساب وزارة الخارجية بناء لما ينصّ عليه قانون المحاسبة العمومية.

 

المخالفات تابع

 

الكلام عن المخالفات يطاول الوزير وأعضاء اللجنة الإدارية – أي الأمين العام ومدير الشؤون السياسية ومدير الشؤون الإدارية والمالية – من أكثر من جهة. فإضافة إلى ما سبق، جاء توقيف مشروع التشكيلات السابقة إرضاء للمستشار هادي هاشم، مدير مكتب النائب جبران باسيل السابق. وتشير المعلومات إلى أن هاشم هو الدبلوماسي الذي قد يكون أدّى دوراً في الاعتراف بعباس فواز رئيساً للجامعة اللبنانية الثقافية (المنقسمة) في العالم، لقاء مكاسب وتنفيعات في سياق تسوية سياسية كان محورها النائب باسيل. والجدير بالذكر أن جهاد هاشم، نائب رئيس الجامعة في الفرع الذي يترأسه فواز، هو شقيق عباس. والمخالفات لا تقف عند هذا الحدّ. فقد تمّ إرسال دبلوماسي من الفئة الثالثة إلى مدينة النجف علماً أن الأخير سبق وأثيرت حوله تهم فساد. وهو ما زال يقطن في فندق هناك على حساب الخزينة من دون القيام بأي مهام على الإطلاق كون القنصلية العامة في النجف ما زالت مغلقة.

 

مقرّبون من الوزير يشيّعون أنه سيتمّ إرسال السفير غدي خوري، مدير الشؤون السياسية في الوزارة، إلى اليونان في مهمّة مفتوحة، بدلاً من السفير كنج الحجل الذي سبق وأشرنا إلى إرساله في مهمّة مماثلة. إن دلّ ذلك على شيء، كما تقول المصادر، فإنما يدلّ على تبادل وسائل الترف مداورة بين أعضاء اللجنة الإدارية على حساب الخزينة. هذا مع العلم أن المستشارة رانيا عبدالله ما زالت القائمة بالأعمال في اليونان، من جهة، وأن خوري ليس من الطائفة الأرثوذكسية – الأمر الذي يناقض الذرائع التي كان يتمسّك بها الوزير لناحية تخصيص مراكز بحسب الانتماء المذهبي، ما ساهم في تعقيد التشكيلات ومهمّات الدبلوماسيين الآخرين.

 

وراء الأكمة ما وراءها؟

 

وقبل هذا وذاك، تتساءل أوساط متابعة: هل يحاول الوزير استرضاء كافة الكتل النيابية أملاً بترشيح – قد يأتي وقد لا يأتي – لرئاسة الجمهورية، كما يقول البعض؟ وإن كانت الأمور كذلك، لا يعود ثمة غرابة في توزيع المهمّات آنفة الذكر وفقاً لما يرضي ذلك الأمل – الطموح. هنا يجيب البعض أن تاريخ الوزير الطويل في العمل الدبلوماسي لا يمكن – ولا يجب – أن يقوده من باب المناقبية إلى مخالفة الأصول واعتماد مبدأ تحوير السلطة لأغراض شخصية. فإن صحّ ذلك، لِمَ يقف الوزير ساكتاً، متفرّجاً وشاهداً على مشهد تداعي الإدارة والوزارة دون أن يحرّك ساكناً؟

 

إعمال النيّة الحسنة في الردّ على التساؤل أعلاه يحتّم إجابة بسيطة. فقد حان الوقت، كما يجمع كثيرون على معرفة دقيقة بما يجري، لمحاسبة دبلوماسيين ارتكبوا مخالفات جسيمة للأعراف من الدفعة الأخيرة التي تم تشكيلها إلى الخارج كونها منسوبة إلى الفريق الذي جاء ببو حبيب وزيراً. كما حان الوقت أيضاً لدعوة السفراء الذين تخطّوا مهلهم القانونية للعودة إلى الإدارة.

 

هناك إرادة… هناك وسيلة

 

لكن دعنا من الوشوشات التي تُهمس في الأروقة عن «مبالغ» تُدفع مقابل بقاء هؤلاء في الخارج. الحل القاطع لدابر الإشاعات هو الابتعاد عن الأداء الذي يشجّع على تقوية المحسوبيات السياسية، أكانت وساطات أم محاولات إجراء المناقلات الدبلوماسية أو استئثار المحازبين والمحاسيب بالمهمّات الخارجية. فالوزير أنجز تشكيلات في أزمنة مختلفة. ولا شيء يمنعه، والحال كذلك برأي متابعين، من إتمام التشكيلات اليوم، لا سيما أن بو حبيب اعترف على الملأ بأن ظلماً غير مسبوق لحق، وما زال، بمن علقوا في الإدارة.

 

بغياب الإجابات الواضحة على التساؤلات الكثيرة وانتفاء الإجراءات العملية التي تقطع شك التجاوزات بيقين المعايير، تبقى المعلومات المتداولة في أكثر من حلقة وعلى أكثر من صعيد مشروعة. لكن لسنا هنا في معرض الإدانة أو الإعفاء من المسؤولية بل إعلاء الأصوات لفتح – ربّما – باب النقاش والحلول. فعلى رغم اعتراضات المعترضين والشاعرين بالغبن، هناك شبه إجماع على أن الوزير، لو أراد فعلاً، قادر على قلب الواقع. فهو من قام بتعيين قائم بالأعمال في دمشق قبل استقالة الحكومة. وهو من أصدر قراراً بتشكيل مدير مكتبه بعد استقالة الأخيرة إلى هناك. وهو من بعث بآخرين بمهمّات مفتوحة بعد سلسلة من الضغوطات. لذا لا شيء يمنع من إصلاح الوضع الآيل إلى مزيد من التداعي إلا غياب الإرادة والنيّة ووضوح الرؤية.

 

كانت وزارة الخارجية وتبقى إحدى الجبهات الأمامية ونوافذ لبنان المتقدّمة على العالم. أما السقوط المريع لباقي الجبهات، فيستدعي وقف النزف الحاصل هنا إنقاذاً لأحد مراكز الثقل التي كان يُحسب لها يوماً ألف حساب.‎