IMLebanon

وزارة الانتخابات .. و”المنامات الوحشة”!

 

الثابت حتى الآن، لدى كل المعنيّين بالملف الحكومي، أنّ توقيع الرئيس ميشال عون لمراسيم تشكيل الحكومة ثمنه أنّ تتشكّل حكومة كما يريدها هو وجبران باسيل. ودون هذا الثمن، لا يحلم أحد بحكومة؟

 

لا أحد من كل هؤلاء المعنيّين يقبل بهذا الثمن؛ لا القوى السياسيّة المرشّحة لأن تشارك في الحكومة باختصاصيّين تسمّيهم، تقبل بهذا الثمن الذي يريده عون وباسيل، ولا خصومهما او حلفاؤهما يقبلون بذلك، ولا الرئيس نجيب ميقاتي في وارد أن يقبل بأن يكون «رئيساً فخريّاً» لحكومة رئيسها الفعلي جبران باسيل عبر إمساك رئيس التيار البرتقالي بوزارات أساسيّة والتحكّم بالحكومة عبر الثلث المعطّل.

 

على هذا الأساس، تبدو فرضيّة تعطيل التأليف هي الأقوى، حتى ولو استمرّ نجيب ميقاتي «طالع نازل ع بعبدا» إلى ما شاء الله. وهو في اللقاءات التي عقدها مع رئيس الجمهورية، جرّب أن يحفر في الصّخر الرئاسي، ولكن «ولم يطلع الماء»، لسبب بسيط جدّاً، وهو أنّ الموقف الرئاسي محسوم عونيّاً وباسيليّاً سلفاً، بعدم القبول بأقلّ من حكومة مثبّتة على قاعدة «الأمر لي»!

 

من هنا، فإنّ اللقاءات الأوّل والثّاني والثّالث والرّابع بين عون وميقاتي، كانت أشبه بـ«الحبل الكاذب»؛ عواطف متبادلة وما يعادلها من مجاملات وإبداء نوايا بالتعاون، ولكن بدءًا من اللقاء الخامس، وما تلاه، ذهب مفعول إبرة المخدّر، ونفّس البطن الحكومي من كلّ ما قيل عن تدوير زوايا وإمكانية التفاهم، وتبيّن أنّ الأمل بولادة الحكومة لم يكن سوى وهم.

 

كان الرئيس المكلّف مندفعاً بعزم شخصيّ، ودعم دوليّ، فرنسي على وجه التحديد، إلى إحداث خرق سريع يستولد منه الحكومة العتيدة، ولكن كان لـ»قلم توقيع مراسيم الحكومة» رأي آخر: «مطالبنا ومعاييرنا وحقائبنا وحقوقنا نريدها وبزيادة، ولن نمنح الحكومة الثقة».

 

لا يعني ذلك عودة الى الوراء، لأنّه لم يحصل تقدّم في الاساس، بل هي مراوحة سلبيّة في مربّع الصفر الذي لا يُرى فيه حتى الآن مسارٌ يؤدّي إلى تأليف حكومة.

 

الواضح في أفق هذا الاستحقاق، أنّ ما يجري لا يعدو أكثر من محاولة تعجيز متعمّد للرئيس المكلّف، لإحراجه فإخراجه، أو لجلبه الى بيت الطّاعة وتشكيل حكومة بالمعايير العونيّة والباسيليّة خاضعة بكلّيتها للقرار البرتقالي.

 

لكن الواضح أيضاً في المقابل، أنّ نجيب ميقاتي قد سبق له أن رسّم حدوده من البداية، بأنّه لم يقبل تكليفه لكي يدور في متاهة المماطلة والتعطيل او ليثير ما سمّاه «وكر الدبابير»، بل هو آتٍ ضمن مهلة غير مفتوحة لكي يشكّل حكومة متوازنة بمهمّة انقاذية بحجم الأزمة وليس بحجم طرف بعينه. وما لم ينجحوا فيه مع سعد الحريري لن ينجحوا فيه حتماً مع نجيب ميقاتي.

 

ما ينبغي التعمّق فيه، هو أنّ هذا التعجيز بالمعايير البرتقالية الذي أقاموه عليه، لا يبدو أنّ القصد منه الوصول الى حكومة بمهمّة انقاذية واصلاحية كما يتوق لها اللبنانيون وكما يطالب بها المجتمع الدولي. فما هو جليّ لدى كل المعنيين بالملف الحكومي، هو أنّ هذا التعجيز يتجاوز تلك المهمّة، التي يحيطها «المعجّزون» بعناوين شعبية وشعارات جميلة وكلام عن تدقيقات جنائيّة وما إلى ذلك، بل أنّ القصد منه هو تحقيق الهدف الوحيد الكامن في خلفيّته، وهو استمرار تيّار رئيس الجمهورية في موقع القرار والإمساك بزمام الامور بعد نهاية ولاية عون.

 

يدرك تيار رئيس الجمهورية أنّ أيّ حكومة خارج معايير عون وباسيل، ستعدم فرصه بالاستمرار و»الصمود» امام الجبهات العريضة من الخصوم التي بناها في السنوات الاخيرة، وخصوصاً في الشارع المسيحي.

 

على أنّ هذا الإدراك، نابع من هاجس يؤرق تيار الرئيس، ويقلقه من المرحلة المقبلة؛ ثمّة فرضية نوقشت على الطاولة البرتقالية تقول إنّ تشكيل حكومة بالشّكل الذي يريده الآخرون سيقضي على ما يطمح إليه بأن يستمرّ في الصفّ السياسي الأمامي في المرحلة المقبلة، ويبقى حاضراً بزخم في المعادلة الداخلية، ويصبح التيار في هذه الحالة على الرفّ ضعيفاً فاقداً لعناصر القوة التي تمكنه من صدّ الضربات التي قد يتلقاها من شتى الاتجاهات.

 

تلحظ تلك الفرضيّة، انّه لسبب ما عُلّقت أو جُمّدت الإنتخابات النيابيّة، ولسبب ما تعذّر انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية عون وخلا موقع رئاسة الجمهورية بعده، فالذي سيحكم البلد هو حكومة نجيب ميقاتي إن تشكّلت. فإذا كانت هذه الحكومة خارج المعايير العونيّة والباسيليّة، فإنّها ستتجاوز تيار الرئيس وتتجاهله وتتعاطى معه كأنّه غير موجود.

 

وعلى هذا الأٍساس، ثمّة استحالة في أن يقبل تيار الرئيس بمثل هذه الحكومة، ولذلك تبقى حكومة تصريف الأعمال الطيّعة في يده هي الخيار الأوّل حتى الآن، أو بالأحرى الخيار الإحتياطي، حيث لا شيء يمنع أن تستمر هذه الحكومة حتى إجراء الانتخابات النيابيّة، كما لا شيء يمنع أن يُدار البلد من خلالها في حال تعطّل الاستحقاقان النيابي والرئاسي لأيّ سبب كان.

 

يدرك تيار الرئيس كما غيره من القوى السياسيّة، أنّ الحكومة حتى ولو تشكّلت لتنفيذ مهمة اصلاحية وانقاذية، فإنّه لن يتأخّر الوقت حتى تصبح هذه الحكومة انتخابية، وخصوصاً انّ الاستحقاق النيابي صار على بُعد أشهر قليلة. ووزارة الداخليّة باعتبارها المعنيّة الأساس بالتحضير لهذا الاستحقاق وإجراء الانتخابات، تشكّل عصب هذه الحكومة، وفي الوقت نفسه تشكّل الهاجس الأساس لتيار الرئيس الذي يتحضّر لانتخابات مصيريّة هذه المرّة، مع التبدّل الكبير في مزاج الشارع المسيحي، وخفوت وهج التيار عمّا كان عليه في وقت مضى.

 

من هنا، يدرك تيار الرئيس أنّه أمام انتخابات صعبة، ولذلك يرفض عون وباسيل أن يتخليا عن وزارة الداخليّة لأيّ طرف كان. سواء أكان سنيّاً، يمت بصلة مباشرة أو غير مباشرة إلى سعد الحريري وتيار المستقبل، أو وزيراً مسيحيّاً «محايداً».

 

فالمنطق البرتقالي يعتبر وزارة الداخلية صمام أمان انتخابي له، ويقول بضرورة أن تُسند إلى وزير مضمون ومأمون وموثوق به. فالوزير المحايد يعني أنّه وزير ضعيف و»حيطو واطي»، ويُخشى في هذه الحالة أن يتسلل خصوم التيار في الشارع المسيحي وتحديداً «القوات اللبنانيّة» وحزب الكتائب وغيرهما، للإفادة من هذا الضّعف، فيدفعونه تحت الضّغط عليه إلى ما قد يسهّل أمورهم، ويتيح لهم تحقيق فرصة الانتقام انتخابياً من «التيّار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل.

 

وبحسب المنطق البرتقالي، أيضاً، فإنّ المسألة ستكون أصعب عليهم إنْ أُسندت الداخليّة إلى وزير سنّي، كما يطالب الرئيس المكلّف، ومن خلفه رؤساء الحكومات السابقون، وبالتالي، فإنّ قبول تيّار الرئيس بذلك، معناه أنّه يقدّم رأسه مجاناً ويضعه تحت مقصلة سعد الحريري، حيث أنّ هذا الوزير السنّي، سيتحرّك وفق مشيئة هذا الفريق، الذي لا يخفي مشاعره الحانقة على عون وباسيل ورغبته في الثأر منهما، ويسخّر بالتالي كلّ امكانات وزارة الداخليّة، ليس فقط بما يسهّل أموره ويخدم انتخاباته، بل لخدمة وتسهيل أمور قوى مسيحيّة، حتى ولو كان هذا الفريق على خصومة معها حالياً مثل «القوّات اللبنانية»، فالخصومة يمكن أن تركن جانباً امام هدف جليل يجتمعون عليه، وهو التضييق على تيار الرئيس وكسره سياسياً وانتخابياً. هذا ما يخشى منه تيار الرئيس ويقلقه، ولذلك لن يتخلّى عن الداخليّة، حتى «ما ينام بين القبور ويشوف منامات وحشة».

 

من هنا، فإنّ أيّ حديث عن إمكان التفاهم على حكومة، بين منطقين يصرّ كلّ منهما على أن تكون وزارة الإنتخابات من نصيبه، هو حديث متعب سيبقى يدور في حلقة التعطيل ذاتها، إلّا إذا حدث ما قد يفرض على الجميع ان ينزلوا تحت سقوفهم المعطّلة تشكيل الحكومة، ولكن هذا النزول رهن بحصول معجزة .. والمعجزة بالتأكيد فرضيّة وهميّة لا تمتّ إلى الواقع بصلة، وهذا معناه أنّ هذه الدوّامة ستبقى تدور .. وتدور .. وتدور .. حتى ينقطع النّفس!