تحذير من تخفيض أجور الموظفين واعتبار المبالغ المحسومة دَيناً بذمّة الشركات
التقبّل، هو سمة مرحلة الإنهيار التي يمر بها لبنان. مئات الألوف من العمال والمستخدمين تقبّلوا منذ أيلول العام 2019 تخفيض رواتبهم، وصرفهم إفرادياً أو جماعياً من دون بدلات عادلة، فبنظرهم، تعويض مجحف في اليد، خير من تعويض عادل، قد يحصلون أو لا يحصلون عليه، بعد سنوات من الدعاوى واستمرار التعويضات بخسارة قيمتها الشرائية.
من حق المؤسسات في الأوضاع القاهرة، كالتي يمر بها لبنان، صرف مستخدميها. ولكن هذا لا يتم بحسب القوانين إلا بالعودة إلى وزارة العمل، التي يجب أن تدقق بدفاتر الشركة، وحقيقة مرورها بظروف قاهرة تجعلها مجبرة على تخفيض عدد العمال، أو حتى صرفهم جماعياً، والاقفال. ومن بعدها يصار إلى تسوية أوضاعها، والسماح لها بعمليات صرف مقابل دفع التعويضات والبدلات التي تقرها القوانين. وهذا ما لم يحدث منذ انفجار الأزمة الاقتصادية، بحسب ملاحظات المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين. “فلا الشركات تتقدم من وزارة العمل، ولا العمال المصروفون يشتكون بشكل جدي وفعال”، يقول مدير المرصد الدكتور أحمد ديراني. “حيث لوحظ إقدام العمال على تقديم الشكاوى بشكل كثيف في نهاية العام 2019، لتعود وتخفت الوتيرة في العام 2020 بشكل ملحوظ”. أما السبب برأيه فيعود إلى “انعدام ثقة العمال بقدرة مؤسسات الدولة، على تحصيل حقوقهم. أمّا خيار اللجوء إلى القضاء، فهو يتطلب وقتاً طويلاً، من دون أن تكون النتيجة مضمونة لمصلحتهم”. كل هذه العوامل دفعت بالعمال إلى الإحجام عن الدخول بنزاعات مع أصحاب العمل والرضوخ لشروطهم.
لا ثقة بمؤسسات الدولة
قلة ثقة العمال بالنظام، يعززها شعورهم بعدم وجود من يدافع عن حقوقهم. فالنقابات وإتحاداتها تحولت إلى هيئات صورية منذ زمن بعيد، تكتفي باصدار بيانات الشجب والإستنكار. أمَّا وزارة العمل فلم تأخذ منذ وقوع الإنهيار موقفاً واحداً في صف العمال. وقراراتها تفتقد بحسب رئيس تحرير “المرصد” أسعد سمور “للآليات التنفيذية والتطبيقية. وللمثال نأخذ قرارها ما قبل الأخير الذي يتعلق بوجوب إجراء فحوص الـ PCR للعمال كل 14 يوماً. حيث أتى القرار خالياً من أي توضيحات أو إجراءات تطبيقية تحدد المسؤوليات، وكيفية التكفل باجراء الفحوصات وطريقة المراقبة وخلافه. فلم يطبق”.
التحذير من تخفيض الأجور
قبل أيام قليلة عادت وزيرة العمل لإصدار مذكرة جديدة حملت الرقم 5/1. فتحت عنوان “تأميناً لحسن سير العمل” حذّرت الوزيرة لميا يمين “أصحاب العمل من مغبة تخفيض الأجور من دون أي مبرر قانوني، ومن دون أي تخفيض لساعات العمل”. في الشكل تُظهر المذكرة نية الوزارة الحسنة، ودفاعها عن حقوق العمال. فيما وقعت في المضمون، عن قصد أو غير قصد، في فخ تشريع ما هو غير قانوني. حيث إن “تخفيض ساعات العمل يعتبر إخلالاً بعقد العمل. وهو يعرض العقد للفسخ مثله مثل تخفيض الأجر”، يقول ديراني. و”بحسب معاهدة منظمة العمل العربية، فانه حتى في أوقات التعطيل القسري لأسباب لا تتعلق بالعامل والموظف، فان إيقاف الراتب لا يعتبر أمراً مبرراً. فعقد العمل ينص على راتب معين بدوام معين. وأي تعديل في البندين يعرض العقد للفسخ. وهو ما يعني ان المؤسسة لجأت إلى الصرف التعسفي. ولا يحق للمؤسسة التي تعاني من ظروف إقتصادية صعبة، إلا اللجوء إلى الفقرة “و” من المادة 50 وتقديم ملفاتها إلى وزارة العمل للنظر فيها، والاتفاق على آليات التعاطي مع العمال. وأي تصرف للمؤسسة من تلقاء نفسها يعتبر اخلالاً بشروط العمل”.
عجز القرارات عن إحداث أي فرق
يقدّر عدد المصروفين من عملهم بين نهاية العام 2019 ومطلع العام الحالي بحوالى 550 الف عامل. أما أكثرية المتبقين في المؤسسات فيتقاضون من وجهة نظر ديراني جزءاً بسيطاً من أجرهم الشهري يتراوح بين ربع ونصف راتب. “وهو ما يجعل من أي قرار تتخذه وزارة العمل عاجزاً عن إحداث فرق كبير يعوض عن العمال والمستخدمين هذه المأساة”. ولكن المشكلة الأخطر تكمن برأيه “في التأخر الفاضح في تدخل الوزارة. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه من حادثة صرف المئات من الجامعة الاميركية قبل تدخل الوزارة بفترة شهر. من هنا نطالب كمرصد بان تنال عمليات الصرف الجماعية من المؤسسات الإذن من مجلس العمل التحكيمي وليس من الوزارة. حيث تقتصر إجراءات المؤسسات مع الوزارة على “رفع العتب”، ومعظم المؤسسات لا ترجع لها عند قيامها بعمليات الصرف الفردية أو الجماعية”
القطاع التجاري في رأس قائمة الصرف
يتصدر القطاع التجاري المركز الأول من حيث عمليات الصرف وتخفيض الرواتب ويحل القطاع السياحي بعده مباشرة. ومع هذا الحجم الهائل من التجاوزات أصبح على وزارة العمل ان “لا تكتفي باصدار القرارات إنما عليها تعزيز هيئات التفتيش في الوزارة، والتأكد من مدى إلتزام الشركات في إجراءات الوقاية وبتنفيذ القوانين بشكل صحيح”، يقول سمور. “خصوصاً في ما يتعلق بالدوامات والأجور ومقارنة المعطيات مع الضمان الاجتماعي”.
المؤسسات ليست أفضل حالاً
في المقابل فان ما يتعرض له القطاع الخاص يعتبر “غير طبيعي ويتطلب إجراءات إستثنائية ومرحلية لتقطيع المرحلة”، بحسب عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي عدنان رمال. “وليس التصرف وكأن الأمور بألف خير والقطاع الخاص يعمل وينتج بظروف عادية”. وبحسب رمال فانه “بالإضافة إلى الإنهيارين المالي والنقدي، واحتجاز أموال المؤسسات والشركات في المصارف… أتت كارثة كورونا واللجوء إلى الإقفال التام والمتقطع منذ العام الماضي لتراكم الخسائر وتعجيز القطاع الخاص. وبالأرقام فقد وصلت فترة الإقفال في العام 2020 إلى 4 أشهر، أي ثلث العام. في حين إن الإقفال الذي فُرض مطلع هذا العام قد يصل في بعض القطاعات إلى شهرين. حيث لن يعاود القطاع التجاري الذي يشكل ثلث حجم الاقتصاد إلى استئناف نشاطه قبل 8 آذار القادم. في حين إن الاقفال في القطاعات السياحية والخدماتية قد يستمر لوقت أطول. خصوصاً إذا ما زادت حالات التقشف في الفترة القادمة وبالتزامن مع الاعياد وشهر رمضان المبارك”. ويضيف رمال أنه “على الرغم من كل هذه المعطيات السلبية فان نسب الفوائد المصرفية على المؤسسات تتراوح بين 8 و 10 في المئة. والضرائب بقيت كما هي ولم تخفض. ولم تُعط مؤسسات الأعمال أي إعفاءات تحفيزية، بل إن كل ما يحصل هو تأجيل الدفع. فتراجعت المبيعات والاعمال بنسبة 80 في المئة، وتراجع الناتج الوطني من 56 إلى حدود 18 مليار دولار. وعليه كيف ستستطيع المؤسسات العمل والانتاج لتأمين رواتب الموظفين بشكل طبيعي وكامل؟ وحتى اعتبار الاقتطاعات من الاجور ديناً بذمة أصحاب الشركات كما ينص التعميم يعتبر ظالماً للكثير من المؤسسات.
رمال الذي يعتبر أن حقوق العمال مقدسة وهي ضرورية للمحافظة على سير الإنتاج والإستمرار، يضع الحق على الدولة أولاً لعدم قيامها بدورها. وإذا استثنينا الحديث عن الفشل من الناحية السياسية الذي يملأ صفحات وصفحات، فان الوزارات المعنية لا تطبق أبسط الاجراءات العملانية لمواكبة المرحلة ومساعدة القطاعات الانتاجية على الاستمرار والمحافظة على عمالها. وهنا من الضروري الفصل والتمييز في التعامل على سبيل المثال بين القطاعات المقفلة بشكل كامل، وتلك التي ما زالت تنتج وتعمل. وبالتالي لا يجوز معاملة المؤسسات بنفس الطريقة لجهة إلزامها بالرواتب ودوامات العمل كاملة.
بين إحباط العمال وانعدام ثقتهم برأي “المرصد”، وبين إعتبار موقف العمال متفهماً لظروف أصحاب العمل والوضع الاقتصادي، وتكافلهم اقتصادياً… هناك مأزق حقيقي. فالمؤسسات تعمل من دون أفق واضح، وبخسارة ملموسة. والعمال يعملون بنصف راتب وبتهديد دائم بخسارة مصدر عيشهم. على هذا المنوال فانه من الصعب على الطرفين البقاء والاستمرار.