الاحتفالية الإعلامية العربية والغربية التي رافقت تعيين أول امرأة على رأس وزارة الداخلية في لبنان (وفي العالم العربي)، ريا الحفار الحسن، لم تصمد كثيراً أمام الواقع والصورة الحقيقية لوزارة الداخلية. ليس الزواج المدني الذي قطعت دار الفتوى طريقه أمام وزيرة الداخلية الجديدة، هو مفتاح الوزارة، وبطبيعة الحال ليس جنس الوزير الذي يحدد ارتقاء الوزارة وفعالية دورها. لائحة الدول التي تتولى فيها امرأة وزارة الداخلية أو الدفاع، لائحة طويلة، ومنها حالياً دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا ودول آسيا، وفي ألمانيا وزيرة الدفاع امرأة، وفي إسبانيا وزيرة الدفاع الحالية امرأة، وقبلها أيضاً كانت امرأة وزارت لبنان لتفقد قوات بلادها العاملة في القوات الدولية وهي حامل، وفي فرنسا تولت أيضاً امرأة فاعلة وزارة الداخلية. فأن تتولى امرأة في دول عربية مهمات وزارة الداخلية، يتعدى إطار الصورة التي تجعل امرأة تقف بين صف من الرجال الوزراء. لأن وزارة الداخلية في لبنان لها حيثية مغايرة تماماً عن وزير الداخلية الموظف في دولة يحكمها رئيس أو ملك أو أمير.
وزارة الداخلية في لبنان «دولة قائمة بذاتها» وأمامها استحقاقات ولها دور أساسي وفعال، فهي ليست وزارة الدفاع، بل تعلو فوقها بالصلاحيات والإمكانات التي تملكها. ليست هذه الوزارة سيادية بالمعنى الحرفي للكلمة فحسب، إنما هي وزارة سياسية وأمنية وخدماتية تمسك بكل مفاصل الأجهزة الأمنية التابعة لها، وبكل القطع الأساسية التي تشكل واقعاً حيوياً، وهي على تماس مباشر مع الواقع السياسي والحياتي بكل شرايينه من البلديات والدوائر السياسية والأجهزة المختصة. هذه الوزارة تولاها منذ إنشائها أهم سياسيي لبنان: كميل شمعون، سليمان فرنجية، صائب سلام، رشيد كرامي، عبد الله اليافي، كمال جنبلاط، ريمون إده، صبري حمادة، عادل عسيران، بهيج تقي الدين وغيرهم من زعماء وقيادات من مختلف الطوائف. بعض وزرائها أصبحوا رؤساء حكومات أو رؤساء مجالس نيابية أو رؤساء جمهورية. هي الوزارة التي حكمها في زمن ما بعد الطائف، ميشال المر ست سنوات، وحوّلها صالوناً سياسياً كل أربعاء يجمع فيه النواب والوزراء وطالبي الخدمات، حتى بات ينافس لقاءات سياسية على مستوى المرجعيات الرئاسية، كالرئيس نبيه بري أو الرئيس رفيق الحريري. حوّل المر لقاء الأربعاء صالوناً سياسياً وخدماتياً، وجعل الداخلية في مصاف مراكز القرار، حتى ابنه الوزير الياس المر، لم يتمكن من مجاراته، فبقي في إطار الصورة الإعلامية الاستعراضية.
في كل المشاورات السياسية لتأليف حكومتَي الرئيس نجيب ميقاتي والرئيس سعد الحريري، تمسك تيار المستقبل بوزارة الداخلية، تماماً كما فعل بعد عام 2005. شكلت هذه الوزارة بالنسبة الى «المستقبل» حاجة خدماتية وسياسية، وقيل أكثر من مرة أن السعودية في الفترة التي كانت لا تزال فيها تشرف على سياسة الحريري، تمسكت بإعطاء الداخلية لتيارها السياسي في لبنان، ولا سيما بعد مرحلة عام 2005، لضرورات تتعلق باغتيال الرئيس الحريري، وبقوى الأمن الداخلي وإبقائها «جيشاً أمنياً» لتيار المستقبل. ويسجل لرئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان تمسكه مرتين بعد اتفاق الدوحة بحقيبتَي الداخلية والدفاع ليس كحقيبتين سياديتين وأمنيتين فحسب، إنما أيضاً كوزارتين أساسيتين «ملحقتين» برئاسة الجمهورية.
في المفاوضات التي جرت لسنوات مع تأليف الحكومات المتتالية مع القوى المسيحية، وعلى رأسها التيار الوطني الحر، لم يطالب الأخير بوزارة الداخلية. في مرحلة ما بعد 2005، كان ممنوعاً عليه الحصول على حقيبة سيادية، ومن ثم ارتأى نيل حقائب خدماتية. وحين بدأ يفرض نفسه على المشهد السياسي وتمكن من الحصول على حقيبة سيادية، فضل الخارجية لأسباب تتعلق بإطلالات رئيس التيار الوطني على الخارج، وكذلك فإن بعض المنظرين فيه لم يروا اهمية للداخلية. كذلك فإن قوى مسيحية اعتبرت أنها حصلت في هذه الوزارة، في ظل «المستقبل»، على المديرية العامة للأحوال الشخصية لاعتبارات ديموغرافية، علماً بأن الأهم هو تحكم وزير الداخلية بالصندوق البلدي المستقل وعائداته مع كل ما يعني ذلك.
اليوم، تعود الداخلية مجدداً الى «المستقبل» الذي تمسك بها، بعد ولايتين للوزير السابق نهاد المشنوق. لكن الولاية الحالية، بعد مرور شهرين ونصف شهر على تولي الحسن حقيبتها، لا يبدو أنها في طور وضع استراتيجية أو تحديد خطواتها السياسية والأمنية واللوجستية، بعيداً عن الإطار الإعلامي الذي لا يزال يروّج للوزيرة الجديدة من زاوية أنها امرأة، كما هي حال صورتها المنشورة على صفحة وزارة الداخلية مع عناصر نسائية في قوى الأمن. واضح أن الحسن ليست شخصية سياسية، ولن تكوّن زعامة سياسية وهي الآتية من وظيفة في ظل الرئيس فؤاد السنيورة الذي انقلبت عليه (مع الحريري). لكن وزارة الداخلية وزارة سياسية بامتياز، تحتاج الى إطار سياسي رفيع المستوى بعيداً عن كون الوزير ملتزماً بذلك الطرف السياسي أو ذاك، فهي ليست وزارة تكنوقراط.
وهي وزارة أمنية، تحتاج الى أبعد من كون قوى الأمن، بصفتها الجهاز الأقرب إليها، موالية للفريق السياسي نفسه الذي تنتمي إليه الوزيرة. فحتى الآن، لم نر بعد هذا الإطار الأمني ــــ اللوجستي، الذي يعطي من اللحظة الأولى أداءً متميزاً، ويفرض «هيبة» ما، باستثناء إزالة الحواجز أمام الوزارة!! لا خطط معلنة للأمن الداخلي، ولا للسجون التي تغص بالمساجين، في انتظار خضة أمنية في أحدها فتسارع وزارة الداخلية الى الترويج لخطة لها، ولا خطط لمسلسل عجقات السير اللامتناهية الذي يمكن أن يتحول إلى إنجاز الوزيرة الأهم (علماً بأنه ليس من مسؤولية «الداخلية» وحدها) لأنه يعني اللبنانيين أكثر من الزواج المدني، ولا للدراجات النارية والشاحنات التي لا تلتزم بدوامات السير. حتى الآن، لا حضور لوزارة الداخلية أكثر من كونها امتداداً لتيار المستقبل. لا أكثر ولا أقل. والتعثر الذي يلحق التيار يبدو أنه يلحق بها.