Site icon IMLebanon

الأقليات… ومحاذير الإستيعاب والإندماج

حَرّكت فرنسا وَضع الأقليّات في مجلس الأمن، إستحدثت ملفّاً جديداً، وتمكّنت من إدراجه أولوية على جدول أعمال المنظمة الدوليّة، وتتولّى بعثاتها الديبلوماسيّة إثراءه بالمعلومات المدققة ليكتسب مشروعيّة متكاملة تضعه في مصاف القضايا التي تلقى الحدب والإهتمام الدوليّين.

تأتي في طليعة الأسباب الموجبة، معالجة ظاهرة تدفّق المهاجرين الى السواحل الإيطاليّة والأوروبيّة، من ليبيا، من القرن الإفريقي، من الدول العربيّة المنتفضة، والتصدّي لظاهرة التغيير الديموغرافي، ووَضع حدٍّ لتجارة الرقيق بمواصفاتها الحديثة، كأن تستثمر الدول المتمكنة في المعاناة الإنسانيّة بحيث تفتح أبوابها أمام الخبرات والكفايات، وتشجّع اليد العاملة على الانخراط في الزراعة والصناعة لإنعاش إقتصادياتها مقابل ضمانات متواضعة.

ويستند الملف – القضيّة الى عناصر محوريّة ثلاثة تبرر فرضيّة قيام مسعى دولي يدعم الأقليات، ويساعدها على التشبّث بأرضها، ويوفّر لها الحماية، والحدّ الأدنى من الضمانات.

• المحور القانوني، وعماده شرعة الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، والقوانين المرعيّة الإجراء، والمواثيق المعمول بها لدى المنظمات الدولية المتخصصة في رعاية النواحي الإنسانية، خصوصاً في الدول التي تشهد نزاعات داخليّة.

ويأخذ الجانب القانوني في الإعتبار أيضاً نصوص الدساتير المعتمدة في هذه الدول، والتي تفرد بنوداً دستوريّة عدة تحمي الأقليات، وتحترم وجودها، وتفاعلها ضمن المجتمع الواحد. وتشكل هذه الدساتير أساسات يُصار الى البناء عليها للحفاظ على هذه الجماعات في أوطانها، وضمن بيئة مجتمعاتها.

• المحور التاريخي – الجغرافي، وينطلق من المخاطر المحدقة بالمسارات الهادفة الى العبث بمقومات الدول المضطربة ومكوّناتها، لتدمير حضارات عريقة وَلّدتها تراكمات التاريخ، لمصلحة عبثية تتحكّم بها عوامل الفوضى والإرهاب، ووحشية تستهدف الآخر، في وجوده، وحضارته، وثقافته، وتمايزه، مع السعي الدؤوب الى تغيير المقوّمات التاريخيّة والجغرافية القائمة، وفَرض واقع جديد، مجهول المستقبل والمصير، ومجهولة كلفته للحفاظ على الحدّ الأدنى من الاستقرار الذي تُمليه لعبة التنافس بين الدول الكبرى لترسيخ مصالحها الإقتصاديّة والأمنية في الأوطان والكيانات الجديدة المُحدَثة، أو تلك التي في طور النشوء.

وتأتي القضيّة الفلسطينيّة كمثل، ومثال. لقد اقتنعت الدول الكبرى بالفكرة القائلة إنّ النزاع العربي – الإسرائيلي قد ينكفئ عندما تتمكّن إسرائيل من الإندماج في محيطها العربي – التركي – الإيراني عن طريق المعاهدات والتحالفات وتبادل البعثات. لكن تبقى الحقوق المشروعة المعترف بها دولياً لشعب ينسلخ عن أرضه، وتذوب هويته في دول ومجتمعات اللجوء.

وقبل إيجاد الحل العادل والدائم لهذه القضيّة المتفاقمة منذ العام 1948، برزت قضايا أخرى على جانب من الخطورة، منها القضيّة الأرمنية التي لم تنته فصولاً بعد على رغم مرور مئة عام على الإبادة.

ثم القضيّة الكرديّة التي تطلّ برأسها مجدداً سواء في العراق، او سوريا، او تركيا، ناهيك عن القضايا الأخرى التي تفتعلها الثقافة المتوحشة على يد تنظيم «داعش» و»جبهة النصرة» و»الإخوان المسلمين»، وما يحمله هذا «البطن الأصولي الإرهابي» من إفرازات قاتلة تستهدف سائر الأقليات المشرقيّة.

• ثالثاً، المحور الأمني – الإقتصادي. لقد أدرك الغرب أنّ الاستيعاب قد يكون ممكناً، لكنّ الإندماج دونه عواقب وثغرات، لأنّ التفاوت الإجتماعي – الثقافي يشكل تحدياً لا يمكن تجاهله.

في الولايات المتحدة التي تقدّم نفسها نموذجاً فريداً في الديموقراطية، وحقوق الإنسان، هناك مشكلة العنصريّة ما بين الأبيض والأسود المتحدر من أصول إفريقيّة، وعلى رغم أنّ مواطناً يتحدّر من هذه الخلفيّة قد أصبح رئيساً على مدى دورتين متتاليتين، فإنّ الحوادث المتكررة التي تقع في عدد من الولايات، قد أحيَت العصبية العنصرية من الرميم، والخطر يتمدد، والجمر لا يزال مشتعلاً تحت الرماد، على رغم السنوات الطوال من المعالجات المكلفة.

وبعد حادثة «شارلي إيبدو» إكتشفت فرنسا أنّ الإندماج لم يكن مثاليّاً، هناك مقاطعات في ضواحي باريس لا يجرؤ البوليس الفرنسي على دخولها لتنفيذ القانون.

وشعرت الحكومة الفرنسيّة في لحظة ما أنّ النزاع الثقافي لم ينتهِ الى غير رجعة، لا بل بَدا نافراً في الآونة الأخيرة، ومن أبرز معالمه تفشّي ظاهرة التطرّف، والتطرّف يولّد عنصرية جديدة. النازيوّن الجدد في ألمانيا ليسوا جزءاً من الماضي، بل من إفرازات الحاضر.

القوميّون الجدد في هولندا، وإسبانيا، وإيطاليا، وحتى في السويد، ليسوا رقماً مهمّشاً، إنهم على ازدياد. لقد كشفت ظاهرة الإرهاب ما كان مستوراً، وبدأ الإندماج يتحوّل من حلّ الى مشكلة.

ما تُقدم عليه فرنسا في مجلس الأمن قد أنتج حتى هذه الساعات بيانات… لكنها عازمة، وبدعم دول كبرى، على تثبيت الأقليّات في أرضها، وعدم الاكتفاء بقصاصات الورق.