بلغة هذه الحكومة التي اتخذت لها شعار «المصلحة الوطنية»، وبلغة العقل والمنطق التي يحاول البعض أن يستبدلها بلغة الأرجل والتفجير والدعوة إلى استعمال القوة والتحريض الطائفي، وبلغة الناس، كل الناس من مختلف المناطق والطوائف والمذاهب الذين عادت اللقمة والعيش الكريم والتلهف إلى وضع حياتي واقتصادي ومعيشي سليم، تستولي على اهتمامهم ومخاوفهم، وبعد أن أصبحت الأخطار الوجودية تحيط ببلادهم من كل المواقع والإتجاهات.
وبلغة الرفض لكل محاولات التعطيل الهادفة إلى نسف كل معالم الدولة ومواثيقها وقوانينها وأسسها، وفي طليعتها تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية وإرباك جلسات مجلس الوزراء وقراراته، ومنع انعقاد جلسات المجلس النيابي الذي فتح دورة إستثنائية تمكينا من إقرار قوانين تستهدف إيجاد الحلول للقضايا المعيشية والإقتصادية الملحة.
وبلغة المصلحة الوطنية، وهي لغة لا بد وأن تنمو وتُظهر بعد الآن صيحة مكتومة لدى المواطنين في كل مكان: كفى، لقد طفح الكيل. كما لا بد وأن تواكب مسيرة رئيس مجلس الوزراء الذي مارس حتى الآن نهجا وطنيا أصيلا منذ تأليف هذه الحكومة وإدارة شؤون البلاد وموقع رئاسة الجمهورية الشاغر وفقا لأحكام الدستور، بكل صنوف الحكمة والتعقل والإعتدال ومراعاة مواقع ومواقف الجميع، وهو قد عانى ولا يزال من تصرفات البعض ودلع البعض الآخر وقلتان الطموحات الجامحة، واستغلال الرغبة لدى التيار الذي ينتمي إليه الرئيس سلام بمواجهة كل صنوف التآمر على استقرار البلاد.
وعليه، وبلغة رئيس الوزراء المستجدة والمنتفضة بوجه التجاوزات غير المسؤولة والمتصفة بالهيجان وفقدان الأعصاب والمطالب الشعبوية والتصرفات الطائفية لدى التيار الوطني الحر، وقد جاءت تصرفاتٍ الرئيس سلام صلبة ورافضة لهذه المواقف الفئوية غير المسؤولة، والمنحدرة إلى مستويات هابطة غير مسبوقة في تاريخ السياسة اللبنانية.
وهكذا وبعد مرور ما يزيد على السنة على تأليف هذه الحكومة، وبعد ثلاثة أسابيع تم فيها إرجاء انعقاد جلسات مجلس الوزراء بقرار من رئيسها، سعياً منه إلى تبريد الأجواء وتدوير الزوايا ومحاولته من خلال الوصول إلى حلول وطنية وعقلانية بعيدة عن فلتان الأعصاب والغرائز، يجيء التصعيد العوني في هذه الأوقات العصيبة التي تجتازها المنطقة ويجتازها الوطن، مرتكزا إلى شعارات طائفية ومطالب محتكرة لمواقف المسيحيين، محاولاً أن يحتكر لنفسه منصب رئاسة الجمهورية.
رجل كتمام سلام الذي بقي محافظا على خيوط الصبر لديه وعلى دواعي الحكمة والمصلحة وضبط مفاعيل القرارات والمواقف التي يمكن أن تؤدي إلى تفلت أمني خطير، يمارس في الواقع دور القائد الرصين البعيد عن تشنجات المواقف العونية وأساليبها الشعبوية الطائفية المرفوضة، ولقد قرر الرئيس سلام الإمساك بزمام الأمور بموقف حازم يتمسك فيه بصلاحياته الدستورية كرئيس لمجلس الوزراء كاملة غير منقوصة ،بعد أن فسّر البعض صبره وحكمته ومعالجته للأمور بوحي من ضميره الوطني بكثير من سوء النية.
إن الأدعى إلى الأسف والتحسب، ذلك الإتهام المشبوه الذي طاول به التيار الوطني الحر، تيار المستقبل الذي يمثل الأغلبية السنية، بأنه مثل تنظيم داعش التكفيري الإرهابي! متجاهلا عمليات القصف التي طاولت أوامره مواقع «القوات» التي واجهته وحاربته، ومواقع متعددة من مناطق المنطقة الغربية من بيروت أدت في حينه إلى استشهاد عشرات من المدنيين الأبرياء. إن تيار المستقبل وتوجهاته الوطنية الصادقة يمثل في هذه الأيام صلة الوصل الأساسية التي ما زالت تجمع بين اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم، والرافض الأساسي لكل توجه طائفي ومذهبي بغيض، ويتجلى ذلك خاصة في جهوده وممارساته في الإطار السني الذي أثبت بالممارسة والموقف الحازم أنه الخصم الأساسي لكل صنوف التطرف والخروج عن مبادئ الإسلام الحنيف المرتكزة إلى مبادئ السلم والإعتدال والتسامح.
وهكذا فإن الجنرال عون يسعى إلى أن يفهم الجميع أن قراره ذا النكهة الطائفية الخالصة يجب ان يسري على الوطن كله، قد اتخذ له شعارا: عليّ وعلى أعدائي وعلى الوطن يا رب، طالبا إيقاع زلزال ما قد يؤدي إلى إيصاله للرئاسة العتيدة.
بلغة الجنرال لا بد أن يستمر الأسلوب العنفي والإنقلابي الذي انتهجه منذ أن أطبق على القصر الجمهوري حين تم تعيينه رئيسا لحكومة إنتقالية مؤقتة إستقال جميع أعضائها المسلمين، ومع ذلك، إعتبرها حكومة دستورية وميثاقية، وانقسم حكم البلاد إلى حكومتين وأطلق من خلال تحكّمه، زمام حربين، حرب التحرير وحرب الإلغاء، وها هو اليوم يستمر على نفس النهج ونفس الموقف، وفي كل ما يتخذه من قرارات فإنه يرتكز على شعار أنا أو لا أحد الذي يستولي على نهجه السياسي والذي يثبت يوما بعد يوم، وموقفا إثر موقف، أن هدفة وهاجسه وحلمه الذي تسقط في سبيله كل القيود الدستورية والقانونية، هو الوصول إلى موقع الرئاسة بأي ثمن وبذلك هو يمارس حرب إلغاء جديدة يلغي بها كل احتمال لانتخاب أي رئيس غيره كائنا ما كان موقعه وحجمه، وفي طليعة هؤلاء أي مرشح للرئاسة يمكن أن يتم التوافق عليه، فيخطط لمحاربته ويعمد إلى وضع العراقيل في وجهه على نحو ما هو حاصل في هذه الأيام بالنسبة لقائد الجيش الجنرال قهوجي، لا لشيء، إلاّ لأن هناك بعض الملامح التي تشير إلى إمكانية ما، قد توصله إلى مركز الرئاسة الأولى.
اليوم يعقد مجلس الوزراء جلسته الجديدة وسط أجواء حامية ما زالت تهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور واللجوء إلى الأقدام وإلى الشارع وإلى اطلاق المواقف الطائفية البغيضة والتي وإن كان بعضها محقا، فإن ظروف المنطقة والبلاد وحجم الأخطار القائمة والمحيطة بنا لا يجيزها في هذه المرحلة الملتهبة على الإطلاق، دون أن ننسى أن لكل فئة في هذا البلد، مواقفها ومطالبها وإمكانية التحرك السياسي والشعبي لديها وفقا للمبادئ التي يصعب تحريكها دون المساس باستقرار البلاد وأمنها وبالمواقع الميثاقية التي تسود أوضاعها بالغة التعقيد، ودون أن ينسى أحد كذلك خطورة هذه المطالب بهذه المواقف الآحادية وهذه الشعارات الطائفية التي تهدد بالنزول إلى الشارع، ولا يخفى على أحد إطلاقا أن هذا البلد يحتوي على شوارع عديدة يتم التآمر عليها، ومن خلال ثغرات تداخلها هي مهددة بالفلتان، وما يمنع هذه الشوارع وخاصة الشارع السني من هذا التفلت، هو حكمة رجلين كبيرين: رئيس تيار المستقبل الشيخ سعد الحريري ورئيس الحكومة تمام سلام ، وعدد من القادة الذين يتحركون بضميرهم الوطني ورؤيتهم الهادفة إلى حماية وتعزيز الوحدة الوطنية وسلامة أوضاع البلاد.
وكما أن الجنرال أعطى لنفسه فقط، حرية التطاول على جميع الناس وجميع السياسيين وبالتحديد على فئة تدخل في عمق لبنان وجذوره الميثاقية، كما أعطى لنفسه حرية وصف الآخرين بالأقزام، فإن لهؤلاء الآخرين حريات قانونية وديمقراطية عديدة يمكنهم اللجوء إلى استعمالها، ولكن… يبدو أن الجميع حريصون على مصير لبنان وديمومته وبقائه، وهذا ما يدفع بهم إلى التمسك بأسلوب الصبر والحكمة والحرص الشديد الذي يتبعه الرئيس سلام في هذه الأيام الحافلة بالغرائب والعجائب والمصائب.