«عَبَثْ»، قد تكون هذه الكلمة هي الوصف الأفضل لحال لبنان واللبنانيين بعد اثنتيْ عشرة سنة على ذاك القسم الشهير على «أن نبقى موحّدين» الذي ردّدناه خلف جبران تويني، الذي اغتيل بعد ثمانية أشهر فقط من صدوح صوته مدويّاً «نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيّين»، نظرة على الإنقسام اللبناني عشيّة الإعلان الباطل للرئيس الأميركي عشيّة إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل، تظاهرة عوكر الهزيلة والشغب والإعتداءات التي شهدته واللغة الخشبيّة التي استعيدت فيها من «الرّمم» الشيوعية وسواها تثير السخرية، الغاية الوحيدة لهكذا استعراض سخيف كانت إحراج المسيحيين وحشرهم خارج مشهد التضامن مع القدس، جماعة المخابرات السوريّة عندهم خبرةٌ في إخراج هكذا سيناريوهات رديئة!!
للأمانة، لم نكن بحاجة إلى قضايا تأتينا من خارج حتى ينكشف عُري انقسامنا وتشرذمنا، اثنتا عشرة سنة على اغتيال صوت جبران تويني الذي يتحدّى الموت، واللبنانيّون يتساءلون: أين 14 آذار؟! والإجابة واضحة منذ العام 2005، منذ اقتضت المصالح الإنتخابيّة عقد التحالف الرباعي مع حزب الله والجلوس معه في حكومة واحدة بالرّغم من كل الإشارات المعلنة بأنّ «ميتسوبيشي» الإغتيال خرجت من الضاحية، وذلك «قبل بكتير» من أن تعلن المحكمة الدوليّة هوية المتورّطين في اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً حتى الابتهاج وتوزيع الحلوى احتفاءً باغتيال جبران تويني!
منذ اثنتا عشرة سنة وانقسامنا يتأكّد ويتظهّر كلّ يوم، وللأمانة أيضاً السياسة مجموعة مصالح بدءاً من مصالح الدول انتهاءً بمصالح السياسيّين الشخصيّة، السياسة ليست مجموعة مبادئ وقيم، هذا كذبٌ على الناس وليس سرّاً أنّ كل المصالح السياسيّة يتمّ تظهيرها في النهاية على أنّها مصلحة الوطن، ما الذي بقيَ اليوم من جبران تويني سوى قَسَمِه الذي ألقيناه خلف ظهورنا، وعكّازه ذاك الذي يذكّرنا بحجم التضحيات كلّما شاهدناه في يدِ مي شدياق تتكئ عليه، اسمحوا لنا.. كلّ الأفرقاء حتى الذين اخترقت شعبيتهم الطوائف وعبرتها وما زالت، حبسوا لبنان في حجم كتلهم الناخبة وتحالفاتهم الإنتخابيّة، معظم مجموعاتنا السياسية لا مبادئ لها، تعقد اتفاقات تاريخيّة وما يلبث أحد أطرافها أن ينقلب عليه بعدما يحصل على مبتغاه، ونظرة على الخطوة التاريخيّة التي خطاها الدكتور سمير جعجع باتجاه المصالحة المسيحيّة الكبرى في اتفاق معراب الذي أنقذ لبنان من الفراغ المميت على مستوى رئاستيْ الجمهورية والحكومة، ونحن نشهد كلّ يوم سياسة التنصّل من نصّ بنود هذا الإتفاق بل والسعي إلى دفنه وإبعاد «الحكيم الشجاع» الذي أقدم عليه، خصوصاً أنّه لم يستفد منه أيّ إفادة شخصيّة فيما جنى سواه المناصب والمكاسب والمحاصصات والصفقات الكبرى، نظرة على هذا الاتفاق الذي لم يبلغ العاميْن من العمر تجعلنا نتيقّن أنّ من اغتال يوم 14 آذار عندما مشى بالاتفاق الرباعي وأن السياسة في لبنان لا أخلاق فيها، وأنّه «عبث» ليس إلا!
هل لأحد ما أن يطرح السؤال: لو كان جبران تويني معنا اليوم في أيّ فريقٍ كان؟ السؤال يحتاج أن نسأل أيضاً عن التحالف الإنتخابي والدائرة التي يترشح فيها!
من يتذكّر اليوم أنّ النائب وليد جنبلاط وقف في ساحة الشهداء وأمام تلك الحشود وكانت دماء رفيق الحريري ما زالت على اسفلت بيروت وتوجه إلى «سوريا» -لم يكن قد درج بعد مصطلح النظام السوري- بقوله «نمّد يدنا من فوق كلّ الدّماء، وكانت الدماء ما زالت حارّة، كانت المواعيد الإنتخابيّة نصب عينه، ذهب إلى بنت جبيل، قانون غازي كنعان كان يغلّ يده في بعبدا وعاليه، والقانون الإنتخابي بحكم الجميع بمن فيهم الشهيد جبران تويني لو كان حيّاً!
«عَبَثٌ» كلّ الدّماء التي أريقت وكلّ الرّجال الذين سقطوا، غابة من الشّهداء ذهبت أرواحهم هدراً.. ربّما علينا أن نذكّر أن رفيق الحريري اغتيل وأحد الأسباب كان «الإنتخابات» وأنّه اغتيل وهو خارجٌ من جلسة نيابية لمناقشة قانون انتخاب جديد، وأنّ مشهد صدام الـ»ديناصورات» -الهزيلة – السياسة اللبنانيّة بانقساماته أو تحالفاتها هو مشهد إنتخابي ليس إلا، وأنّ هذه التحالفات تقتضيها المصالح الشخصيّة لكلّ فريق، وأنّ «مولد» التحالفات الإنتخابيّة سينفضّ بعد تكليف الفائز إنتخابياً بتشكيل حكومة جديدة وانتخاب رئيس جديد للمجلس المجلس النيابي وهاتيْن التسميتيْن لوحدها أكبر الصفقات بُعيْد فرز نتائج الصناديق!!
«عَبَثٌ.. وَعَبَثٌ.. وعَبَث».. رَحِمَ الله جبران تويني.. رحِمَ الله الشهداء الذين صدّقوا أنّهم يدافعون عن المحكمة الدولية.. رَحِمَ الله لبنان وشعبه المخدوع «إلى أبد الآبدين».