لا انتخابات رئاسية في الأفق، ولا خروجَ مِن الشَلل النيابي قبل انتخاب رئيس للجمهورية، ولا عودةَ لاجتماعات مجلس الوزراء مبدئياً، ولا حوارَ وطنيّاً في غياب الرئيس. فهل يمكن توصيف الوضع بأقلّ مِن أزمة نظام؟
مجلس الوزراء كان الإطارَ الدستوري الوحيد الذي يَعمل بالحَدّ الأدنى الذي تَسمح به التعقيدات السياسية، فتمَّ تعطيله تحت عنوان إمّا تقريب موعد تعيين قائد جديد للجيش من أيلول إلى حزيران أو تجميد العَمل الحكومي، وذلك في استنساخ للمعادلة الرئاسية التي أعادَ الشيخ نعيم قاسم تذكيرَ اللبنانيين بها: إمّا العماد عون أو الفراغ.
ولا مؤشّرات إلى حَلحلة حكومية إلّا في حال تراجُع أحدِ الطرفين، ولا يبدو أنّهما في هذا الوارد. فالعماد عون يَعتبر أنّ أيّ تراجُع من قِبلِه اليوم سيُفسِح في المجال أمام التمديد لقائد الجيش في أيلول، ولذلك قرّرَ الدخولَ في ربط نزاع اعتباراً من هذه اللحظة إلّا في حال تلقّى تعهّداً بتحقيق مطلبِه في أيلول، فيما تيّار «المستقبل» ليس بوارد تقصير ولاية الجنرال جان قهوجي، ويربط التعيينَ بالانتخابات الرئاسية، ولن يتراجَع عن موقفِه إلّا في حال تراجع عون عن ترشيحه الرئاسي والذي هو مِن سابع المستحيلات.
فكلّ ما تقدّمَ يؤشّر إلى أنّ الأزمة الحكومية دخَلت في المجهول وانضمّت إلى الأزمة الرئاسية، وأصبح مفتاح حَلّها بيَد العماد عون أيضاً، ولن يَستخدم هذا المفتاح إلّا في حال حصوله على مطالبه، ولن يحصلَ عليها، ما يَعني أنّ الشَلل الذي أصاب المؤسسات الدستورية الثلاثة أصبح مفتوحاً بانتظار تطوّرَين: أمني كبير في الداخل يَستدعي مؤتمراً خارجياً على عجَل لحلّ الأزمة ومنعِ تفاقم الأمور، فيتمّ الاتفاق على رئيس وحكومة وقائد جيش وربّما قانون انتخاب. والتطوّر الآخر مرتبط بتطوّر التسوية في المنطقة بَعد الاتفاق النووي. وفي الحالتين لا مكان لأسماء لا تَحظى بتوافق الجميع.
وبانتظار الآتي من التطوّرات سيكون الشَلل سيّدَ الموقف، فيما خسرَ عون فرصتَه الرئاسية مجدّداً، لأنّه لم يثبِت بأنّه مرشّح وسَطي، والوسَطية هي نهجٌ وخَيار دائم لا مؤقّت على قاعدة أنّه يتبنّاها في حال تمَّ تبَنّي ترشيحه، ويسقِطها في حال أُسقِط ترشيحه، وقد جاءت فرصة عرسال ليثبتَ العماد عون للسُنّة بأنّه في طليعة مَن يتفهّم هواجسَهم، فإذا به يُزايد على «حزب الله» في هذا الموضوع، فيما كانت هذه القضيّة نوعاً مِن بروفا يستطيع تقديمَها للسُنّة والبلد عن طريقة إدارته المتوازنة لملفّ متفجّر، فيقف مع «المستقبل» في منعِ المَسّ ببلدة عرسال، ويقف مع الحزب بخوض معركتِه في الجرود، ويلعَب دورَ الموفّق بين الطرَفين في غياب رئيس للجمهورية، ولكنّه اختارَ أن يقف إلى جانب الحزب ويربط ملفّ عرسال بملف التعيينات إلى أن أخَذ الحزب ما يريده من عرسال وترَكه يتخبّط بملف التعيينات.
ومن ثمّ أيّ سنّي أو شيعي سيوافق على انتخاب رئيس يَستدعي الشعبَ عند كلّ خِلاف سياسي يَبدأ من نزاع صلاحيات ولا يَنتهي مع مياومي الكهرباء. واستحضار صورة بعبدا من خلال تحريك الشارع هو خطيئة لا خطأ فقط، لأنّ كِلفةَ هذه الصورة كانت كارثية على المسيحيّين ولم تُمحَ من الذاكرة بعد، وإعادتهم 25 سنة إلى الوراء لا تفيد، وأمّا القول بأنّه اضطرّ لاستخدام الشارع بسبَب رفض التجاوب مع مطالبه السياسية، فهذا عُذرٌ أقبَح من ذنب، لأنّه على 14 آذار إذاً ألّا تخرجَ مِن الشارع قبل أن يسَلّمَ «حزب الله» سلاحَه للدولة اللبنانية، وقِس على ذلك.
فالواقعية السياسية تقول باعتماد الخَيار الأقلّ كلفةً على البَلد والناس، فما بين تدمير البلد والخضوع، لا بأس من ربطِ النزاع مع الحزب بانتظار التطوّرات الخارجية الكفيلة بحسم قضية السلاح.
والواقعية تقول بأنّ انتخاب رئيس من 8 أو 14 آذار مستحيل، لأنّ الصراع في العمق والأساس والجوهر هو سنّي-شيعي وسعودي-إيراني، ولن يَسمح أيّ طرَف بترجيح كفّة خصمِه في لبنان، وما عجزَ عنه «حزب الله» في ظلّ استخدامه السلاح في 7 أيار لن يحقّقه بزَمن «عاصفة الحزم»، فضلاً عن أنّ الحزب اليوم ليس بهذا الوارد كونه المستفيدَ الأكبر من الستاتيكو القائم ولا يريد تحريكه لا من أجل انتخاب عون ولا غيره، خصوصاً أنّ أولويته مواصَلة «المستقبل» مواجهتَه مع التطرّف داخل البيئة السنّية.
والمسألة هنا لا علاقة لها بالمسيحيين ولا بحقوقهم، إنّما بطبيعة الصراع القائم، وبالتالي لو كان الصراع من طبيعة طائفية مسيحيّة-إسلامية كان يُفترض إيصال المرشّح الذي يَرفع عناوين بيئته في المواجهة مع المسلمين، أمّا وأنّ الصراعَ سُنّي-شيعي فيجب إيصال المرشّح الذي يُشعِر الطرفين بأنّه سيكون على مسافة واحدة بينهما، ومَن يَحلم بانتصار محوَر على آخر في لبنان سيَستفيق على كابوس.
وتجربةُ النائب وليد جنبلاط تستحقّ أن تكون مثالاً، فهو على رغم مواقفِه من النظام السوري وغيره، الجميع مطمئن بأنّه ليس بوارد ترجيح كفّة فريق على آخر، الأمر الذي لم ينجَح عون بإثباته.
والفرصة ما تزال سانحةً امام الجنرال لتسوية تجعله ناخباً رئاسياً رئيسياً وصاحبَ الكلمة الفصل في تسمية قائد الجيش، ولكنّه ما زال مصِرّاً على الفصل بين القيادة والرئاسة، فيما التعطيل الرئاسي هو الذي قادَ إلى التمديد العسكري لا العكس، والحلّ يبدأ بانتخاب رئيس جديد…