ما حصل بالأمس في قصر بعبدا لا يمكن وصفه إلا بأنه المقدمة الطبيعية لإهدار الفرصة الأخيرة لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي الذي يلوح في الأفق منذ أشهر، وتسبب بالانفجار الشعبي في 17 تشرين الأول الماضي.
سبق الخطاب الذي سمعناه محاولات من أجل مساعدة لبنان على الخروج من المأزق مع تحديد للخسائر التي تلوح في الأفق.
تُختصر هذه المحاولات بأن مساعيَ أوروبية بُذلت، بعد الأيام الخمسة الأولى للتحركات الشعبية الاحتجاجية، مع محيط الرئاسة اللبنانية، تقضي بتأليف حكومة جديدة من الاختصاصيين تلبي مطالب الحراك الشعبي الذي تحتاج تهدئته إلى التجاوب مع الحد الأدنى من مطالبه.
قضت الأفكار التي طرحتها جهات أوروبية أن تُختصر خريطة الطريق لمعالجة المأزق اللبناني بالآتي: خطة لتقليص حجم القطاع العام، تسريع خطوات النهوض بالقطاعات التي تتسبب في مراكمة العجز في موازنة الدولة ولا سيما قطاع الكهرباء، تمهيداً لخصخصة بعض القطاعات أو اشتراك القطاع الخاص باستثمارها في شكل يساعد لبنان على البدء في إطفاء خدمة الدين ثم الدين العام، الحصول على موافقة البنك الأوروبي للاستثمار كي يكتتب بسندات الخزينة اللبنانية (على مراحل) بقيمة 10 مليارات دولار أميركي في شكل يساعد على سد النقص في السيولة بالعملة الصعبة للمالية العامة.
لم يلقَ هذا العرض آذانا صاغية لدى الذين استمعوا إليه من محيط الرئاسة، وكان الجواب استغراب هؤلاء لسبب استمرار الحملة ضد العهد والوزير جبران باسيل. وهذا ما ترك انطباعاً بأن بعض محيط الرئيس ميشال عون الذي استمع الى هذه الأفكار يعيش في وادٍ آخر، وفي “شرنقة” يحبس رجالات العهد أنفسهم فيها، ما يجعلهم غير قادرين على استيعاب جدية الانفجار الشعبي في البلد.
وإذا كان هذا العرض جاء من جهة أوروبية، لا أميركية تثير الريبة عند “حزب الله” الذي يتوجس كما يعلن منذ بدء المأزق، من مؤامرات واشنطن ضده، فلأن الدول المتابعة عن قرب تصاعد الأزمة اللبنانية، ولا سيما الأوروبية تدرك أن هناك حاجة ملحة لدى لبنان كي يحصل على سيولة مالية سريعة تسمح له بالوقوف على رجليه عبر ضخ أموال في ماليته، بمعزل عن البرنامج الاستثماري لقرارات مؤتمر “سيدر”، كي يتمكن من متابعة تنفيذ الإصلاحات وإطلاق تنفيذ تلك القرارات. وهذه الحاجة الملحة كانت الدافع الرئيسي لحركة رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري منذ شهرين. وتقول الأوساط العارفة بأهداف اتصالات الحريري الأخيرة مع الدول الأوروبية وبعض الدول الخليجية، قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية، إنه سعى إلى تأمين ضخ سيولة في الوضع المالي اللبناني نظراً إلى الحاجة الملحة لهذا الإجراء من أجل تفادي الانحدار، وهو الأمر الذي شغل جانباً من محادثاته في أبو ظبي مطلع الشهر الماضي، حيث جرى الحديث عن إمكان مساهمة دولة الإمارات العربية المتحدة في هكذا خطوة عبّر عنها محافظ البنك المركزي في الإمارات أمس بحديثه عن دراسة إمكان تقديم المساعدة للبنان في هذا الإطار. وكان الحريري يأمل متابعة هذا الجهد مع دول خليجية أخرى.
خطابات الأمس لا توحي بإمكان نجاح الخطوة المالية الإنقاذية، لأن ما قيل من قبل الرئيس عون وباسيل ومن “حزب الله” لا يوحي بالاستعجال في تأليف الحكومة خلافاً لكل الزعم بذلك.
قد تكون النتيجة الأبرز في خطاب رئيس الجمهورية الخميس الماضي أنه تحدث عن الفشل في الإصلاح، فيما تناول باسيل “فشلنا” أكثر من 5 مرات في خطابه أمس، لكنهما اتهما الشركاء في التسوية (أي الحريري) بذلك.
لم يعد الحريري ينتظر تكليفه برئاسة الحكومة أمام هذا الواقع الإنكاري للمأزق، وفي ظل رفضه لمساواته بإخراج باسيل من الحكومة البديلة بالإيحاء بأنه لن تتم تسميته من أجل تأليفها. فما يوازيه في التركيبة هو عون لا باسيل. همه الحؤول دون تصعيد يحرف الحراك السلمي لإنتاج اشتباك يقود البلد إلى صراع أهلي، والحؤول دون نوايا البعض تحميله مسؤولية أي انهيار.