لم تكن هناك أي تطورات ميدانية أو عسكرية بارزة على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حتى يتم إطلاق الصاروخين أول من أمس على شمال إسرائيل، وكي تُنسب العملية بعدها إلى جهات فلسطينية غير منضبطة أو متحمسة “أكثر من اللزوم” أو “متواطئة” كما يحلو أحياناً، لمصدر أمني مجهول أو معلوم أن يصف حوادث من هذا النوع، وفق الصيغة التي اعتدنا سماعها.
ثلاث عمليات لإطلاق صواريخ حصلت في الأشهر الثلاثة الماضية. وإذا كانت أولاها في أيار الماضي ارتبطت بحرب المستوطنين الإسرائيليين على حي الشيخ جراح في القدس في إطار استكمال تهويد المدينة من قبل التطرف السائد في الدولة العبرية، وبحرب الـ11 يوماً المجنونة على غزة، فإن عمليتي إطلاق الصواريخ اللتين أعقبتاها، في تموز الماضي والأربعاء 4 آب، حصلتا بعد التوصل إلى وقف النار، وتحقيق الهدنة التي عدّها محور المقاومة انتصاراً كبيراً على العدو. أي لم يكن لهما أي مبرر، مع الإشارة إلى أن الفصائل الفلسطينية المعروفة رفضت، حين طُلِب إليها إصدار بيانات ان تتبنى عملية أيار الماضي. فهي لم تشأ إقحامها في أهداف بعيدة عن فلسطين، من وراء إطلاق تلك الصواريخ، معتبرة أن المقاومة في غزة، وعلى امتداد الأراضي المحتلة، ولا سيما في أراضي 1948 تكفلت بالمواجهة مع الجيش الإسرائيلي وإجرامه، وأنها لا تريد أن تقوض النتائج الفعالة لتحرك فلسطينيي الداخل الذي أربك قيادة بنيامين نتانياهو في حينها.
إذاً لم يكن هناك مبرر فلسطيني لإطلاق صاروخي الأربعاء، فما هدف الجهة التي أطلقتهما وأسقطت أحدهما في الأراضي اللبنانية؟
تتجه أنظار وعقول المراقبين على الدوام إلى “حزب الله” في عمليات من هذا النوع، ومن ورائه إلى إيران، بصفته يتمتع بسيطرة أمنية على الأرض الجنوبية، تفترض أنه حتى لو تمكنت مجموعات من اختراق حواجز للجيش أو عيون قوات الأمم المتحدة، لمرتين، فإن عيون “الحزب” لا بد أن تكون قد استنفرت من أجل تحديد هوية من يخرق الهدوء جنوباً.
تارة ينسب المحللون قبة باط “الحزب” عن إطلاق هذا النوع من الصواريخ من على منصات “بدائية الصنع” كما يقال لنا، لا تتناسب مع احترافية مقاتليه، إلى أسباب تتعلق بالوضع الإقليمي وبتعثر المفاوضات الأميركية الإيرانية في فيينا، وأخرى يربطونها بضربة إسرائيلية موجعة للقواعد الإيرانية في سوريا والتي يتواجد فيها مقاتلون لـ”الحزب”…
بعض العواصم الكبرى المعنية بمتابعة تفاعلات إطلاق صواريخ 4 آب ونوعية الرد الإسرائيلي المحدود عليها، ولو استعمل الطيران لمرة نادرة منذ حرب 2006، ترى أن الرسائل من ورائها تتعلق بالوضع اللبناني الداخلي هذه المرة حتى لو كان هناك جانب إقليمي في هذه الرسائل.
الهدف وفق تقديرات هذه العواصم المتابعة عن كثب هو حرف الأنظار عن تصاعد الحملة السياسية الإعلامية على “الحزب” في الأسابيع الماضية في قضايا عدة، أهمها تركيز خصومه على دور محتمل له في حماية تخزين نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في المرفأ، بغرض تمكين حليفه النظام السوري من استخدامها باعاً في حربه على المعارضة السورية، وبالتالي مسؤوليته عن الانفجار الكارثي الذي كان اللبنانيون يحيون ذكراه السنوية الأولى والمآسي التي سببها بالكثير من الدموع والغضب. كما أن اتهامات المعارضين للسلطة الحاكمة بالفساد باتت تشمل “الحزب” أكثر من السابق، مع ازدياد الحفرة التي نزل فيها اللبنانيون على الصعيد المعيشي، عمقاً جراء تشبث من في يدهم السلطة بشروط تعطيل الفراغ الحكومي، بينما تتسع دائرة الفرقاء الذين يتهمون “الحزب” بأنه وراء هذا الفراغ لإبقاء لبنان رهينة التفاوض الإيراني مع أميركا في فيينا، وذلك عن طريق حليفه الرئيس ميشال عون. النقمة على السلطة باتت تساوي بالنسبة إلى جزء من الثائرين عليها التهمة لـ”الحزب” بأنه يقف خلفها ويستفيد منها ويرعى التهريب إلى سوريا ويخضعها للمشروع الإيراني الإقليمي، فيتسبب للبنان بالعزلة العربية والغربية… الصاروخان يحوّلان الاهتمام عن كل ذلك إلى ما يقوم به العدو الإسرائيلي من رد وقصف وحرائق، وبأنباء تقدم لبنان بشكوى لدى الأمم المتحدة، مع وجود شريحة من اليمين الإسرائيلي في السلطة تريد المزايدة على نتانياهو في ردودها العسكرية على إيران وأدواتها.
تفاعلات الصاروخين واتهام الجيش الإسرائيلي الدولة اللبنانية بالمسؤولية عن إطلاقهما فضلاً عن أنها تحجب الاهتمام عما قيل في مؤتمر باريس حول وجوب الإسراع في تشكيل الحكومة، وعن الشعارات المضادة لإيران في بعض فعاليات الذكرى، تخفض من ارتفاع أصوات الاحتجاج في مناطق سيطرة “الحزب” على تردي الأوضاع الحياتية، رغم الوعود بأن جمهوره لن يجوع، وبتأمين بواخر البنزين الإيرانية…