عاش البلد بعد فراغ سدة الرئاسة سنة من الاستقرار الحكومي الذي لم يُعطب طوال تلك المدة مع أنه كان يبدو في كل يوم سريع العطب.
ثم دخل البلد في الأشهر الأخيرة أزمة مختلفة كمياً ونوعياً عن سلسلة الأزمات التي عجنت سنواته الماضية وتاريخه بشكل عام.
أن يقفز الموضوع البيئي الى المرتبة الأولى في هذه الأزمة الشاملة ويصير محور التقاطع بين شتى العناوين المحتقنة الأخرى فهذا لم يكن في قيد المتوقع والمتداول في السياسة اللبنانية، إذ قلما كان العنوان البيئي مدار اختلاف جدي بين القوى النافذة، وكانت سمة العناوين البيئية، مثل مطمر الناعمة في السنوات الماضية، والمقالع والكسارات، وتلوث المياه والشطآن، وإتلاف وإحراق الغابات، إنها عناوين تقفز الى دائرة الإضاءة الإعلامية، والتهديف السياسي، والتعبئة الناشطة، ثم تنساب الى ما وراء الستارة، نتيجة حدث يهطل علينا من هنا وهناك، ونتيجة تعالي القوى النافذة جميعها على المسائل البيئية، واعتبارها ثانوية جداً قياساً على قضايا السيادة والاستقلال والحريات والاهتداء الى قانون انتخاب وتحرير الأرض وحماية السلاح المقاوم ومعرفة من قتل الشهداء وترسيم الحدود وتحريك عجلة الاقتصاد وتحسين لقمة العيش وتأمين فرص العمل.
في هذا الوقت كان مطمر الناعمة يراكم ويراكم، الى أن صار المطمر نفسه، وليس التحرك الأهلي المحق للسكان، عاجزاً عن تلقي المزيد، وعلى شفير تشكيل حالة «ميني تشرنوبيلية» جراء اجتماع سوء التدبير، مع محدودية الرقعة المستقبلة لنفايات مجتمع عالي وتيرة الاستهلاكية، ومرتفع الكثافة السكانية أساساً، وقد زادتها، بشكل لا يمكن المكابرة عليه، كثافة اللجوء الاضطراري السوري اليه، أيّ إخلال بخرزات هذا المشهد سيضعف حكماً احتمال المقاربة الجادة للراهن المجتمعي والسياسي.
وتداخل هذا طبعاً مع حسابات سياسية وتلزيمية جعلت من الموعد المحدد لإقفال المطمر موعداً تنفيذياً على غير عادة، لتدخل البلاد في أزمة التيه بين البحث عن مطمر بديل، أو عن مطامر بالجمع، أو عن بدائل للطمر، وكانت الحلقة الأولى في هذا الإطار شعور مناطق الأطراف أنها عرضة لحل الموضوع على حساب أهلها وسلامتهم، وجاء تحرك أهالي برجا طليعياً في هذا المقام.
ثم دخلنا في احتقان متزايد، انفجر حالة غضب شعبي لم تجرِ مقاربتها بالشكل الملائم، ما أدى الى توسعها وانتقالها من حركة مجتمع مدني على الطريقة اللبنانية الى حالة رأي عام طفح كيله مع كل هذه السياسات المسيئة للمصالح الحياتية.
من جهة، يبدو الموضوع البيئي متصلاً بشكل عضوي بكل الموضوعات.
ومن جهة، هناك ميل، بحجة الموضوع البيئي، الى تجاوزه ثم طرحه جانباً للانصراف الى موضوعات أخرى.
طبعاً تسييس الموضوع البيئي ضروري من قبل المتضررين من الكارثة الوطنية في قطاع النفايات. لكن ثمة تسييس وتسييس.
ثمة تسييس يضع موضوعاً مطلبياً في الإطار الذي يجمعه بمطالب أخرى، وبالشكل الذي يحسن إدارة عامل الوقت، خصوصاً حيال مشكلة لا ترحم على الصعيد الزمني، كمشكلة تكدس أكوام القمامة.
والتسييس هنا يكون بصياغة القضية البيئية اللبنانية بشكل متكامل كقضية مرتبطة بضرورة انبثاق عقد اجتماعي وبيئي في الوقت نفسه، بشكل لا يفصل بين التخريب الحاصل لشروط عيش الإنسان وشروط سلامة الطبيعة، وبشكل يقسّم العمل بيئياً بين المناطق اللبنانية، بطريقة واقعية.
التسييس لا يكون بتبني نظرية المؤامرة. هناك عطب مزمن في إدارة قطاع النفايات لكن هذا العطب لا يمكن إدراكه بالتبسيطية المبتذلة التي تفسر كل الأمر بأن هناك حفنة من المتآمرين على البيئة وصحة الإنسان بشكل منهجي وواعٍ. كذلك هو مبتذل التفسير التآمري حين يستخدم ضد الغضب المدني والشعبي على خلفية كارثة النفايات.
والتسييس لا يكون بمغادرة القضية البيئية نحو ما يجري التوهم أنه أهم منها، لأن كل بلائنا منذ انتهاء الحرب هو النظر الى القضية البيئية كاكزوتيكية ومخملية وثانوية ما ساعد على التخريب البيئي لطبيعة هذا البلد والتلوث المتعدد الأشكال لأراضيه ومياهه وشروط العيش فيه.
الناس غاضبة، تريد حلولاً سريعة لمشكلة متفاقمة تواجهها هي مشكلة قطاع النفايات، لكن مخطئ من يعتبر أنه يمكن الاستقلال بهذا الغضب وأن الغضب الشعبي «ملكه» وبإمكانه تحويله الى قوة قائمة بذاتها منفصلة عن المشكلة الأساسية، مشكلة النفايات المتفرعة عن مشكلة تخريب البيئة بآليات استهتار فظيعة، تماماً مثلما هو مخطئ من يراهن على تسكين هذا الغضب بالمهدئات التسويفية.