IMLebanon

خلط أوراق في المنطقة

 

بات من الصعب التفريق بين الخيط الأبيض والخيط الاسود في الشرق الاوسط والخليج العربي وشمال افريقيا. تزداد التعقيدات في المنطقة كلّها بشكل يومي. لم يعد معروفا من مع من ومن ضدّ من في ظل تخبّط وضياع أميركيين لا سابق لهما في التاريخ الحديث اذا استثنينا عهد جيمي كارتر وتعاطيه مع ازمة رهائن السفارة الاميركية في طهران وقبل ذلك عهد ريتشار نيكسون عندما كان عليه مواجهة فضيحة ووترغيت.

تدخل المنطقة في السنة 2019 مرحلة في غاية التعقيد والخطورة تحت عنوان البلبلة، خصوصا في ظلّ إدارة أميركية لا تمتلك أي استراتيجية واضحة. لم تستطع إدارة ترامب وضع أي استراتيجية للشرق الاوسط والمنطقة عموما باستثناء تمزيق الاتفاق النووي مع ايران بعد وصف دقيق لطبيعة النظام الايراني ودوره على صعيد «دعم الإرهاب» ورعايته وضرب الاستقرار في كلّ المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي الى الخليج العربي . كان افضل تعبير عن غياب تلك الاستراتيجية القرار المفاجئ للرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من عسكريا من سوريا. باستثناء ضربتين، كان طابعهما رمزيا، بعد استخدام النظام السوري السلاح الكيميائي في حربه على شعبه، لم يظهر دونالد ترامب انّه يختلف كثيرا عن باراك أوباما الذي قرّر، إرضاء لإيران، غضّ النظر عن لجوء بشّار الأسد الى السلاح الكيميائي في تعاطيه مع السوريين.

كان ملفتا ان قرار ترامب بالانسحاب اتخذ من دون التشاور مع مساعديه ومع المختصين في الشؤون العسكرية واحوال المنطقة، بمن في ذلك وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الامن القومي جون بولتون… وبعد اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في وقت كانت تركيا تلوّح بعملية عسكرية واسعة في الشمال السوري. بقدرة قادر عادت تركيا الى حليف للولايات المتحدة وصارت الطرف الذي تعتمد عليه اميركا لسدّ الفراغ الناجم عن سحب جنودها من منطقة شرق الفرات.

حسنا، سينسحب الاميركيون من شرق الفرات. يشير ما صدر أخيرا عن واشنطن الى انّ عملية الانسحاب ستستغرق نحو مئة يوم. هذا يعني بكل بساطة ان القيادة العسكرية الاميركية جعلت ترامب يعيد النظر في قرار الانسحاب الذي فاجأ كل المعنيين بالازمة السورية، بمن في ذلك تركيا نفسها، التي كانت تدعو الى انسحاب أميركي كي تتفرّغ للاكراد و»قوات سوريا الديموقراطية» تحديدا. كانت هذه القوات الكردية تلعب دورا في الحرب على «داعش». صار عليها فجأة دفع ثمن قبولها الرعاية والحماية الاميركيتين في وقت ليس معروفا هل صحيح ان خطر «داعش» زال نهائيا؟

يختزل القرار الذي اتخذه ترامب بالانسحاب من شرق الفرات كلّ تلك البلبلة وكلّ هذا التخبط الذي جعل الحابل يختلط بالنابل في الشرق الاوسط، بل في المنطقة كلّها. هناك أسئلة قفزت الى الواجهة. ما الذي ستفعله روسيا بعد الانسحاب الاميركي من شرق الفرات المنطقة التي فيها معظم ثروات البلد من نفط وغاز ومياه وزراعة؟ ماذا عن ايران التي تعتبر من دون ادنى شكّ ان الفرصة صارت مناسبة لربط سوريا بالعراق برّا وضمان امن الخط الذي يمتد من طهران الى البحر المتوسط؟

سيوفّر الانسحاب العسكري الاميركي من شرق الفرات مناسبة لتأكيد مدى السيطرة الايرانية على العراق. سيكشف الانسحاب مدى قدرة ايران على استخدام «الحشد الشعبي» في العراق وكيف استطاعت تطويع العراق وتحويله الى مجرّد مستعمرة. سيعني دخول «الحشد الشعبي» الأراضي السورية الكثير نظرا الى هذا «الحشد» كناية عن قوات غير نظامية تمتلك شرعية في العراق في حين انّها في الواقع مجرّد ميليشيات مذهبية تابعة لاحزاب عراقية تابعة عمليا لـ»الحرس الثوري» الايراني. بكلام أوضح، سيتبيّن انّ ايران استطاعت تحويل النظام في العراق الى ما يشبه النظام في ايران حيث السلطة الحقيقية لـ«الحرس الثوري». يبدو العراق، حيث يجد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي نفسه مجبرا على تعيين فالح الفيّاض قائد «الحشد الشعبي» وزيرا للداخلية، امام امتحان جدّي. هل لا يزال هناك بصيص امل بقيام سلطة عراقية تتمتع بهامش ما يسمح لها باتخاذ قرار مستقل عن القرار الايراني ام لا؟

ولكن، ماذا عن تركيا؟ من الواضح ان تركيا امام فرصة أخرى لتأكيد انّها قادرة على لعب دور دائم في شمال سوريا، خصوصا في مجال قطع الطريق على قيام كيان كردي في تلك المنطقة. الاهمّ من ذلك كلّه، بالنسبة الى تركيا، هو اعداد نفسها لدور إقليمي اكبر بعد تحررها في السنوات القليلة المقبلة من قيود المعاهدات التي وقعتها الدولة العثمانية مطلع عشرينات القرن الماضي بعد الحرب العالمية الاولى. قيدت تلك المعاهدات تركيا وأجبرتها على التخلي عن أراض تعتبرها جزءا لا يتجزّأ من ترابها الوطني. بعض هذه الأراضي في سوريا وبعضها الآخر في العراق، بما في ذلك مدينة الموصل.

اعطى القرار الذي اتخذه دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا عسكريا إشارة الى نوع جديد من التنافس بين القوى الساعية الى إيجاد موطئ قدم دائم في هذا البلد العربي الذي يدفع حاليا ثمن ما ارتكبه النظام الاقلّوي الذي أقامه حافظ الأسد في العام 1970 واسّس له حزب البعث البائس عبر الانقلاب العسكري في الثامن من آذار – مارس 1963.

ليس ما يدلّ اكثر على دخول الازمة السورية مرحلة جديدة غير الغارات الإسرائيلية الأخيرة في محيط دمشق. ارادت اسرائيل توجيه رسالة الى النظام السوري وايران في الوقت ذاته. جاءت الغارات التي استهدفت على وجه الخصوص الدفاعات الجوية السورية ومخازن أسلحة لإيران و»حزب الله» لتقول ان إسرائيل شريك في صنع مستقبل سوريا وانّ روسيا لا تستطيع منعها من شنّ غارات على مواقع محدّدة متى وجدت ذلك مناسبا. على العكس من ذلك، هناك في ما يبدو تفهّم روسي للغارات الإسرائيلية التي كنات توقفت بعد حادث اسقاط طائرة الاستطلاع الروسية في أيلول – سبتمبر الماضي.

يبقى التساؤل اين اميركا من كلّ ما يحصل في سوريا؟ هناك رأي في واشنطن يقول انّ الولايات المتحدة كانت تعاني من ان جنودها، الذين يبلغ عددهم نحو الفين كانوا مطوقين في منطقة شرق الفرات وان الدور الذي كانوا يؤدونه يمكن القيام به انطلاقا من الأراضي العراقية حيث للولايات المتحدة قواعد ثابتة. هذا لا ينفي ان ترامب خلط الاوراق في المنطقة كلّها وليس في سوريا وحدها… من حيث يدري او حيث لا يدري. ما سيساهم في خلط الاوراق اكثر انّه سيكون منهمكا في الأشهر المقبلة في معالجة المشاكل الداخلية التي يواجهها عهده والاستقالات المتتالية لكبار المسؤولين في ادارته.

الأكيد ان الايّام الأخيرة من 2018 لا تبشّر بالخير بعدما تبيّن ان رئيس القوّة العظمى الوحيدة في العالم فقد الكثير من توازنه داخليا وخارجيا في الوقت ذاته!