IMLebanon

الحراك والوسط التجاري

تميّزت منطقة «سوليدير» يوم أمس بهدوء ملحوظ، خلافا للأيام السابقة التي شهدت جولات الحوار السياسي. فهل بدأ الحراك بالملل، فيما النظام لا يملّ؟

أصبح هناك تلازم بين منطقة الوسط التجاري وبين الحراك الذي ولد في لبنان أوائل شهر تمّوز، تاريخ انفجار أزمة النفايات. درجة الاحتقان بين الحراك وبين النظام تعكسها درجة التوتر في الوسط التجاري، بين المتظاهرين والقوى الأمنية. بلغ التلازم المذكور حدّ الانصهار بين الساحة وبين شعارات الحشود الغاضبة، حتى بات مشروع «سوليدير» أحد محاور الاحتجاج، ودبّ الصراع حول الهويّة الطبقية للوسط التجاري.

هجمة بعض المحتجين على مشروع الوسط التجاري تثير الحساسيات، ليس لدى طائفة معيّنة أو منطقة محدّدة، بل لدى فئات واسعة من اللبنانيين، لأن التعرّض لمشروع «سوليدير» لا يظهر أمام الرأي العام كوسيلة لإرساء العدالة والدفاع عن أصحاب الحقوق، بل كموقف رافض، بمفعول رجعي، لأهمّ مشروع إعماري عرفه لبنان بعد الحرب الأهلية.

الوسط التجاري شيء وشركة «سوليدير» شيء آخر. من الواجب مساءلة الشركة عن أدائها وسياساتها ونتائجها، أما المشروع نفسه فيجب أن يكون منزّها عن الشتائم والمواقف العدوانية. فلولا مشروع رفيق الحريري لإعادة إعمار وسط المدينة لما قامت لبيروت قائمة بعد أن دمّرتها الحرب. والمشروع أهّل لبنان لاستيعاب كبرى المؤسّسات الاقليمية وفروعها لو ساعدت الظروف لبنان، ولم يغرق اقتصاده ويختنق بمشاكله الأخرى، وبعدم الاستقرار.

الملاحظات المشروعة على إعادة إعمار الوسط التجاري تقتصر على ملاحظات رصينة مثل تلك التي أبداها الوزير الراحل هنري إده، لجهة خلو الوسط من المساحات الخضراء ومراكز للنشاطات الفنية والثقافية الراقية، إضافة لتقييم حقوق المالكين القدامى والمستأجرين. أما الطعن بالمشروع من أساسه واعتباره مساحة معادية للفقراء فهو غير مقبول. كل مدينة حديثة في الشرق العربي والعالم فيها مركز تجاري ومالي يشكل قاعدة خدمات للاقتصاد الوطني ومركزا للتفاعل بين اقتصاد البلد والعالم.

المشكلة ليست في وجود الوسط التجاري، بل في إهمال الدولة للمناطق الأخرى والقطاعات غير الخدماتية. لا يقوم اقتصاد على مشروع واحد عملاق مثل مشروع «سوليدير».

أما شركة «سوليدير»، مالكة المشروع ومديرته، فالواجب إخضاعها للمراقبة والمساءلة وإلزامها بالشفافية. إنها ليست قطاعا عامّا خالصا، لأنها تؤثر في اقتصاد البلد وتدير أكبر مشروع عقاري في لبنان، يبلغ رأسمالها ملياري دولار وموجوداتها الدفترية ثلاثة مليارات دولار أميركي، دون احتساب الأرباح الضمنية الناشئة عن ارتفاع أسعار العقارات.

كما أنها شركة مؤتمنة على أسهم عشرات الألوف من اللبنانيين من أصحاب الحقوق، الذين لا يتحكمون بمسار الشركة لأنهم أقلية غير مؤثرة فيها، وأي خلل في الإدارة يلحق الأذى بهم وبمصالحهم. لذلك، فمن حق الرأي العام أن يسأل الشركة عن سياساتها واستثماراتها الداخلية والخارجية، وعن نتائجها. من حقه أن يسألها عن مدى مسؤولية الإدارة عن «تصحّر» الوسط التجاري وعمّا إذا كان ناشئا عن الظروف الاقتصادية فحسب، أم يعود أيضا إلى فقدان الإدارة الخلاقة لهذا المشروع الكبير.

الانخفاض الكبير في سعر سهم «سوليدير» يلحق بدوره ضررا فادحا بأصحاب الحقوق. سعر السهم الذي وصل سنة 2008 إلى أربعين دولارا يبلغ اليوم حوالي 11 دولارا فقط، وهذا يعني ذوبان مدخرات المساهمين الصغار ودافعا لهم لتصفية أسهمهم بأسعار بخسة، فيسحب منهم ما تبقى لهم من حقوق.

امتدادا للقضايا الأخرى التي طرحتها التظاهرات، يعاني الحراك الشبابي من فقدان البرنامج وعدم نضوج الشعارات. «ربيع لبنان» لا يتمتع بزخم الحركات التي سمّيت بالربيع العربي، والتي تباينت نتائجها بين بلد عربي وآخر. إنه غير قادر على تغيير النظام. الشريط الطائفي الشائك يحدّد له الضوابط ويرسم أمامه الحدود.

مع ذلك، فقد حظيت الحركة بتعاطف شعبي غير متوقع، عندما برزت كحركات شبابية عفوية، وقبل أن تتسلل إلى صفوفها الأمامية القوى التي «خدمت عسكريتها» وتقاعدت منذ زمن بعيد.

فالمجتمع اللبناني، وإن كان مكبّلا بعصبياته التقليدية، ضاق ذرعا بالنظام القائم واستشعر تبعات فشله على سائر نواحي الحياة العامّة في لبنان. إنه مجتمع بات توّاقا إلى التغيير الصعب.

لذلك، فإذا عادت الحركة إلى عفويتها وتحرّرت من أثقال المتطفلين عليها، وتسلحت بشعارات ناضجة، يمكنها أن تلعب دورا، ليس في تغيير النظام بل بتهذيبه، وإجباره على الالتزام بالحدّ الأدنى من القيم الأخلاقية، والتصرّف بمسؤولية تجاه المجتمع اللبناني وقضاياه.

لا يمكن الوصول إلى ذلك إلا بتحديد أهداف الحراك وتوحد كل مكوّناته حول شعارات مقنعة توصل إلى الهدف. كل كلمة يطلقها المتظاهرون في ساحة الاحتجاج تحسب عليهم، وتؤهّل حركتهم للاستمرار والنجاح، أو تعجّل في نهايتها.