شاهدت غالبية اللبنانيين الفيديو الفضائحي الذي يصوّر أكوام الزبالة تسبح في الشوارع بعدما تجرأت السماء وأمطرت. الغالبية شاهدته، نعم، واستفظعته بالطبع. ولكن هل تعلمون ما الأفظع في الشريط؟ أصوات الصبايا على ذلك البلكون وهنّ يتفرّجن ويقهقهن أمام المنظر السوريالي. ضحكات تختصر مصيبتنا الكبرى، وهي لامبالاتنا، واعتيادنا القرف، وتحويلنا كل شيء الى مسخرة. أصلاً، كل شيء عندنا صار مسخرة: الدولة الغائبة، البلد المشلول الواقف على صوص ونقطة، لغة السياسيين المبتذلة، خبث الزعماء المتخفين وراء أقنعة الحوار، مستوى الأفكار الحزبية الضيقة، الحس المدني الغائب، الغرائز الدينية المستعرة، درجة اللاإكتراث حيال معاناة المواطنين اليومية، أنانية المواقف “الوطنية” المزعومة، فراغ السلطة الواحدة الموحِّدة، فساد الإعلاميين وتهييجهم أسوأ ما فينا، وهلمّ.
كل شيء صار مسخرة، وكل واحد في هذا البلد “فاتح على حسابو”: دكان وراء دكان، بيع وشراء بالمفرّق والجملة، مقايضات على حساب مَن لا تُسمَع أصواتهم، تجارات مزدهرة باسم الطائفة والله والقبيلة والجيب، مصالح خاصة هنا وهناك، وغالبية الشعب مطية يسهل ركوبها بدلاً من أن تكون فرساً جامحة تقذف عن ظهرها كل مَن يحاول استغلالها والذهاب بها الى الهاوية. لبنان سوبرماركت كبيرة لا تباع فيها سوى بضاعة واحدة: أكاذيب.
نفدي الزعيم بأرواحنا، أما هو فغير مستعد لأن يفدينا ببصلة. ما أشطره بالحكي، زعيمنا، مهما يكن لونه، مهما تكن ولاءاته و”قيمه” وتقاليده ورؤاه. الحكي أفيون اللبنانيين: هم يتبجحون بالتذاكي على الجميع، لكنهم في ما يتعلق بشؤون بلادهم أكثر سذاجة من جحا. فداك يا ريّس: هذه أعناقنا، ادعسها. هذه صحّتنا: استهتر بها. هذه كراماتنا، اسحقها. هؤلاء أطفالنا، أَرِقْ دماءهم. هذا مستقبلنا، ارهنه. هذه أعمارنا، اقصفها. هؤلاء شبابنا: هشّلهم. هذه حقوقنا، اسرقها: كلّه في سبيلك يهون. أصلاً نحن لم نولد لنعيش، لم نولد لنحبّ، لم نولد لنشعر ونفرح ونكبر ونحلم ونتنفس: وُلدنا لنخدمكَ فقط. أرحام أمهاتنا مصانع للذلّ يا ريّس.
بوطة زعران يتلاعبون بنا كالدمى، وغالبيتنا سعيدة راضية. يبصقون علينا فنقسم أنها تمطر. يلوّحون لنا بالجزرة من بعيد فنركض ونقفز في العدم الذي يمثّل خواء ضمائرهم. أما غير السعداء وغير الراضين عن الوضع، فيتناسون أنهم إذا استطاعوا أن يطيحوا هذه البوطة بالذات، فهم على الأرجح سوف ينتخبون بوطة أخرى لا تقلّ عنها سوءا.
التكرار لا يعلّم اللبناني على ما يبدو، بل يزيده جهلاً وتعنتّاً وعصبية. “صحتين” على قلوبنا إذاً، هذه المسخرة وسواها، حتى إشعار آخر.