فور إعلان نتائج انتخابات 2022، انبثق تكتل نيابي لم يُحسب له حساب قبل الانتخابات، أطلق على نفسه اسم «تكتل الاعتدال»، ونصّ البند الأول في أول بياناته على الالتزام ببناء دولة السيادة والقانون والمؤسسات المتصالحة مع محيطها العربي والمتآلفة مع المجتمع الدولي والمحايدة في الصراعات الإقليمية، وعلى «حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية التي يفترض أن تملك قرار الحرب والسلم». وشدّد – في البند نفسه – «على رفض التوطين باعتبار أنّ قضية فلسطين وحقوق شعبها غير قابلة للمساومة».إذا كان القسم الأول من هذا البند يتناغم مع البيانات المتتالية لـ«الخماسية» (الولايات المتحدة، فرنسا، مصر، السعودية وقطر)، فقد بدا «إقحام» رفض التوطين والتمسّك بالقضية الفلسطينية في القسم الثاني غريباً وخارج السياق الدولي – الخليجي العام الذي يدعو إلى التطبيع بما يمثّله من ضرب للقضية الفلسطينية وتجاوز حق العودة.
التكتل الذي يضم 6 نواب (نواب كتلة الاعتدال العكارية الأربعة: محمد سليمان – سني، وليد البعريني – سني، سجيع عطية – أرثوذكسي، أحمد رستم – علوي، والنائبين السنيين أحمد الخير – المنية وعبد العزيز الصمد – الضنية)، عيّن فور ولادته النائب السابق هادي حبيش أمين سر له. أسماء النواب وأمين السرّ أوحت بأن التكتل مجرد واجهة لكتلة المستقبل النيابية، مع علامات استفهام كثيرة حول ما يجمع هؤلاء رغم التناقض في علاقات كلّ منهم مع الأفرقاء السياسيين: البعريني، مثلاً، قريب جداً من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية عبر الوزير السابق يوسف فنيانوس، ولعائلة الصمد مصالح تجارية في دول خليجية تؤمّن تصدير الجزء الأكبر من الإنتاج الزراعي في المنية والضنية وعكار، فيما يصنّف الخير الذي يحرص على توطيد علاقته مع كل من يتعرف إليه، من بين النواب الأقرب إلى السفارة السعودية.
لاحقاً، نشأ ما يشبه الشراكة بين «تكتل الاعتدال» وكل من «كتلة لبنان الجديد» (النواب نبيل بدر، نعمة أفرام، جميل عبود، وعماد الحوت) والثلاثي الصيداوي – الجزيني (أسامة سعد وعبد الرحمن البزري وشربل مسعد)، وتنسيق «على القطعة» مع النائبين بلال الحشيمي وياسين ياسين. وبدا التنسيق عالياً بين هؤلاء جميعاً في الاستحقاقات السياسية، لا سيما في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية.
قبل بضعة أيام، بدأ أربعة من نواب «الاعتدال» (سليمان والصمد وعطية والخير) مبادرة سياسية يرفضون التأكيد ما إذا كانت بإيعاز سعوديّ، ويشدّدون على أنها «تتماهى مع لقاءات الخماسية» أو «تلاقيها في منتصف الطريق»، وهي تتألف من ثلاث مراحل. في الأولى، يجول النواب الأربعة على المرجعيات السياسية والدينية وغالبية النواب لإقناعهم بالمشاركة في المرحلة الثانية التي تتمثل بعقد «اجتماع تشاوري» يرفع توصية سياسية بفتح أبواب المجلس، في المرحلة الثالثة، لعقد جلسة مفتوحة حتى انتخاب رئيس للجمهورية. ويأمل هؤلاء أن يتمكنوا في الاجتماع التشاوري من جمع تواقيع 86 نائباً لتعزيز موقف «الخماسية» في ضغطها المتقطع على رئيس المجلس النيابي.
تقترح المبادرة «نصف حوار» يوصل إلى جلسة رئاسية مفتوحة
اللافت هنا أن «المبادرة العفوية» بدأت من عند الخير المقرب من السفارة السعودية، وأن البعريني، وهو النائب الأقرب إلى حزب الله في هذه التركيبة، لا يشارك في الجولة (لأسباب جغرافية بحسب قول أحد المشاركين، إذ يفضّل البقاء في عكار). كذلك يغيب عنها زميله عن المقعد العلوي أحمد رستم، كما يغيب لأسباب غير معلومة أمين سر التكتل هادي حبيش. اللافت أيضاً أن النواب الأربعة انطلقوا في مبادرتهم من عين التينة، وأن الرئيس نبيه بري أبدى «ترحيباً كبيراً»، مشدّداً على إيجاد تسمية غير «الحوار» لئلا يحصل تضارب بين مبادرتهم وبين الحوار الذي يمكن أن يدعو إليه لاحقاً، طالباً مشاركة أعضاء من كتلته في المرحلة الثانية من المبادرة. وكانت المحطة الرئيسية الثانية عند رئيس تكتل لبنان القوي النائب جبران باسيل الذي أبدى، أيضاً، كل ترحيب مؤكداً أن الاتفاق على رئيس أفضل من انتخاب رئيس من دون اتفاق، وأن الانتخاب من دون اتفاق أفضل من الفراغ.
شجّعت هذه المواقف «تكتل الاعتدال»، مفترضاً أن تمثيله تجمعاً نيابياً وازناً في الطائفة السنية، إضافة إلى دعم بري وباسيل، توفّر دفعاً كبيراً لمبادرته أول انطلاقتها من ثلاثة مكوّنات أساسية، في انتظار اجتماع النواب الأربعة اليوم برئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، والإثنين المقبل مع كتلة حزب الله ومع نحو 20 نائباً من «المستقلين» و«التغييريين» وغيرهم. مصادر في التكتل تؤكد أن الاجتماع مع جعجع «مفصليّ» كونه كان من أشد الرافضين لمبدأ الحوار، وأن الوفد سيشرح له أن الهدف من «المرحلة الثانية» هو تظهير الاتفاق على عقد جلسة مفتوحة لا الاتّفاق على اسم رئيس، مع عدم إخفاء طموح المبادرة بحصر السباق الرئاسي باسمَين أو ثلاثة.
مطلعون يؤكدون أن جمع 86 نائباً على عنوان «عقد جلسة» أمر ممكن، ويمثل ورقة ضغط إضافية في يد «الخماسية» التي ترتّب أوراقها قبل انتهاء حرب غزة، على رئيس المجلس. كما أن موقف جعجع اليوم سيوضح ما إذا كان هناك جو سعودي عام يدفع بهذا الاتجاه أم أنّ الأمر كله بالفعل مبادرة شخصية من دون حضانة إقليمية.
وسواء وصل «الاعتدال» إلى المرحلتين الثانية والثالثة من مبادرته، أو انتهى كل شيء عند الجولة الحالية كما حصل في غالبية المساعي والمبادرات، إلّا أنّ انتقال هذا اللقاء، كتجمّع نيابيّ سني وازن (رغم ديناميكية سجيع عطية) من موقع المتفرج الذي يصدر بيانات دورية إلى محاولة لعب دور سياسي، أمر يجدر التوقف عنده في ظل الفراغ السياسي في الطائفة السنية. ففي ظل صعوبة تصنيفه سياسياً، قد يكون «التكتل» مخرجاً من الجمود والمراوحة، من دون أن يشعر أيّ من الفريقين المتصادمين بأنه ربح أو خسر، وهو ما يراعيه التكتل بالقول إن «ثمة فريقاً يريد الحوار قبل الرئاسة وآخر يرفض الحوار، ولذلك نقترح نصف حوار يوصل إلى الجلسة الرئاسية». علماً أنه لا يمكن مبادرة كهذه في مثل هذا التوقيت يمكن أن توفّر مخرجاً لكثيرين، كما يوحي الترحيب الكبير بـ«المبادرة العفوية» حتى الآن. أما إذا «تعركشت» المساعي، فيمكن عندها «فرط» المبادرة من دون أن يشعر أحد أنه خسر من رصيده.