IMLebanon

«الوسطية».. تأكل أبناءها

ما من عاقل كان يصدق أنّ تحالفاً ثابتاً قد يجمع «أبناء الوسطية» حول مائدة صلبة، حين دفعتهم الحاجة إلى اختراع هذا «الالتقاء» الموضعي، للحدّ من مدّ «الأغلبية الحكومية» التي كانت في جيب «حزب الله» وحلفائه. كل ما في الأمر أنّ الثلاثة حاولوا التخفيف من أثقال الاصطفاف السياسي بالهروب إلى كنف الوسطية التي سرعان ما تبخرت مياهها.

الأكيد أنّ نجيب ميقاتي هو أول من «لبنن» هذا المفهوم واختاره لافتة لموقعه كي لا يذوب في وعاء «تيار المستقبل». رفع شعاره باكراً كي يحصن نفسه من تهمة التمرّد على السفينة التي عبر على متنها «تسونامي» الانتخابات النيابية، كونه خاض الاستحقاق الطرابلسي في العام 2009، بالتحالف مع «التيار الأزرق».

وحين اختارته قوى «8 آذار» بالتكافل والتضامن مع وليد جنبلاط ليكون سيداً للسرايا، تمسك الرجل بمظلة الوسطية، بعدما أشرك معه كلاً من الرئيس ميشال سليمان، وبيك المختارة، للتحصّن بعصا «الثلث المعطل» على طاولة «حكومة حزب الله».

أما وسطية «البيك الدرزي» فترجمتها لها معنى آخر في القاموس الجنبلاطي: هي الملجأ الذي احتمى به الرجل من نيران الاصطفاف الحاد الذي لم يعد بمقدوره أن يكون جزءاً منه، وكونه يفضل عدم اختزال موقعه بين الأبيض والأسود. رفض إقفال الباب بوجه قدامى حلفائه، وتحديداً سعد الحريري، وأصرّ على منفذ له يبقي خيط التواصل قائماً. فكانت الوسطية عنوانه.

وتبقى وسطية ميشال سليمان التي لم تبلعها يوماً قوى «8 آذار» ولم تأخذها قوى «14 آذار» على محمل الجد. الرجل لم يتبنّ هذه «الخيمة» بشكل رسمي، لكنه حمل درع التوافقية التي أبقته على مسافة، ولو غير متوازنة من الطرفين الخصمين. وهكذا فشل في الحصول على شهادة إجماع من جانب القوى السياسية في قدرته على الحفاظ على سمة التوافقية.

ومع ذلك، كان التنسيق قائماً بين الثلاثي على أساس تفاهمات موضعية حالت دون غرق الثلاثة في بحر أغلبية «8 آذار». فتعززت العلاقة بينهم جداً، حتى أن حزب «الكتائب» بدا في لحظة معينة وكأنه يميل إلى الانضمام إلى هذا «الكارتيل»، لكن قيادته لم تكن تملك الجرأة الكافية لمغادرة بوسطة «14 آذار» والإلتحاق بركب «الوسطيين»، فاكتفى ببعض التمايز عن رفاق دربه لا أكثر.

وحين دخل تمام سلام السرايا الحكومية خلفاً للقطب الطرابلسي، تغيّر كل المشهد. سار «حزب الله» وحلفاؤه كتفاً إلى كتف مع «تيار المستقبل» وشركائه لنسج حكومة المصلحة الوطنية، فانفرجت أسارير الزعيم الدرزي الذي أخرج نفسه من بين «الشاقوفين» وصارت حركته أكثر تحرراً من صدام الاصطفافين.

في البداية، حاول البيك البيروتي أن يبعد نفسه نسبياً عن خط الاصطفافات الحارق ليكون رئيس حكومة كل لبنان، لكن «قابلته القانونية»، أي «تيار المستقبل»، أعادته إلى المربع الأول، خصوصاً بعدما صار رئيس حكومة الـ24 رئيسا بـ24 فيتو.

أما مشهد «اللقاء التشاوري» الذي جمع «فخامتين» و8 وزراء فمختلف كلياً. طبعاً، لا تتساوى الاعتبارات التي دفعت القطب الطرابلسي الى ابتكار شعار الوسطية وتقرّبه من جنبلاط وسليمان، بتلك التي حملت رئيس الجمهورية السابق إلى الإلتقاء مع حزب «الكتائب» للوقوف بوجه الطروحات التغييرية للآلية الحكومية.

كان جلياً أنّ الفريقين يخشيان من طبخة تعد بعيداً عنهما، فتأتي على حساب «الفراطة» من الوزراء، حيث جمع الخوف من «المصيبة» كل المتضررين من أي تعديل قد يحصل في آلية العمل. وجداها فرصة ذهبية ليغرفا من معجن المزايدة المسيحية تحت عنوان الدفاع عن مقام الرئاسة الأولى وصلاحياتها.. حيث بدا الوزير عبد المطلب حناوي غريباً عن اللحن المعزوف بين بقية الحاضرين.

لا يعني ذلك أنّ الفريقين قررا الانتقال بهذا التقاطع بينهما إلى مرحلة أكثر تنسيقاً والتزاماً ببعضهما البعض، بمعنى تأسيس «جبهة وسطية» لا تكون ضمن «14 آذار» ولا ضمن جبهة خصومها. فحتى ميشال فرعون الذي شارك في اللقاء الأول، عاد وراجع حساباته بعد التسريبات التي تحدثت عن سيناريو التحول الى لقاء دائم، ففرمل اندفاعته.

في المقابل، لم يوفر جنبلاط «اللقاء الوسطي» المستحدث من تعليقاته، وعلى طريقته حيث قال في حديث صحافي «حاولت، وبقيت وحدي، صحيح أنه كان معنا ميشال سليمان وميقاتي لكن ميقاتي يلقي محاضرات بين هارفرد وأكسفورد، فيبدو أن الوسطية تمشي هناك. الرئيس سليمان أنشأ تكتلاً جديداً. لا أدري إن كان في الإمكان تسميته تكتلاً وسطياً أو غير وسطي، وأنا باقٍ وحدي في الوسطية، لا بد من وسيط».

ومع ذلك، لا تزال علاقة ميقاتي بالبيك الدرزي ممتازة رغم «تلطيشاته» التي لا تفقد للود قضية، فاللقاءات لا تزال قائمة بين الرجلين والكلام بينهما لم يتوقف أبداً. لكن تبدّل المواقع السلطوية كان له تأثيره على المشهد.

ولهذا فإنّ وظيفة هذا اللقاء قد تنتهي مع انتهاء أسباب قيامه. ومع عودة الحكومة إلى عقد اجتماعاتها بشكل دوري بعد حلّ أزمة الآلية، قد لا يجد أركان اللقاء سبباً لدعوة الكاميرات للتصوير…