استطاع لبنان حتى الآن تحييد نفسه عن نزاعات المنطقة. البعض يقول إنّ النظام اللبناني أقوى نظام في الشرق، ويبدو أنّ الصيغة اللبنانية التحاصصية في السلطة، والتي تعترف بالهويات الثقافية وتضعها على السويّة مع الهوية الوطنية، ستسود في النهاية دوَل «الربيع العربي»، وعليها ستبنى التسويات والتفاهمات.
التجربة اللبنانية أفضَت الى نضج في أداء القوى السياسية الداخلية. مهما كانت المداخلات الخارجية مؤثرة في الداخل، لا شك في أنّ موقف الاطراف والقوى السياسية الرافض نقل نزاعات المنطقة الى لبنان مبنيّ في الأساس على هذه التجربة، وعلى المعمودية التي خاضها اللبنانيون بالدم والحديد والنار إبّان الحرب الاهلية اللبنانية.
على رغم ذلك ثمّة مشكلات وعورات جوهرية في النظام السياسي. هذا النظام يبدو عاجزاً عن إيجاد الحلول للمشكلات التي يواجهها لبنان. وهو مصدر دائم للأزمات السياسية وأبرز تجلّياتها حالياً عجزه عن إيصال رئيس جديد للجمهورية، وإفساحه المجال «دستورياً» لإقامة طويلة في الفراغ، ما يجعل البلد عرضة لمخاطر كبيرة في موازاة الزلزال الذي يضرب المنطقة ويُهدّد بزوال كيانات ونشوء أخرى بخرائط ومضامين جديدة.
لا أحد يريد تغيير النظام التحاصصي. من الواضح أنّ الجميع في لبنان يريدون بقاء الدستور الحالي، المنبثق من «اتفاق الطائف» عام 1989. والجميع متفقون على أنّ «الطائف» ليس مقدساً ويحتاج الى تعديلات من شأنها سدّ الثغرات الميثاقية، وإضفاء مزيد من الشراكة السياسية والحدّ من الاستفراد وتهميش الجماعات مهما يكن حجمها. ومن أبرز البنود التي تحتاج الى «عناية» وبحث معمّق، بند «انتخاب» رئيس الجمهورية.
لابد من اقتراح انتخاب يمكن ان يخلص البلد من المداخلات الخارجية والضغوط التي يتعرّض لها النواب. لا نقاش في أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً. هذه مسلّمة عند معظم الافرقاء المسلمين، وبالتالي لا خوف من المطالبة بتعديلات طفيفة تعيد للمسيحيين حضورهم في السلطة عبر رئاسة الجمهورية.
ولكي يستطيع الرئيس أن يحكم لا بدّ من اعادة بعض الصلاحيات اليه، ومنها ما يتصِل بالعلاقة مع السلطتين التنفيذية والتشريعية.
التعديلات الدستورية لا تعني «المثالثة». مَن اقترح هذا المصطلح وعَمّمه وسَوّقه انما أراد تخويف المسيحيين لمنع البحث في صيغة اتفاق الطائف.
إنّ أيّ بحث جدي في تعديلات دستورية لا بدّ أنه سيصبّ في مصلحة الرئاسة الاولى والمسيحيين، والفترة الآن مؤاتية والطريق مفتوحة في ظل التنافس «السني – الشيعي» على كسب ودّ الشارع المسيحي.
لم يعد أمام لبنان خيارات كثيرة. الفراغ في بعبدا سيطول بحسب الواقع والوقائع. ولا بد من جرأة الاعتراف بفشل النظام في جوانب ونجاحه في جوانب أخرى، ما يقضي بجلوس اللبنانيين على طاولة بحث اسمها «المؤتمر التأسيسي» أو أيّ إسم آخر. المهم المبادرة الى مواجهة المرحلة المقبلة والتعامل مع الفراغ على قاعدة العلاجات الجذرية، وليس الحلول الموقتة طالما أنّ ظروف المنطقة تتواءم مع فكرة التغيير.
الحل الموقّت قد يكون بانتخاب رئيس للجمهورية، ولكنّ هذه الخطوة لن تنقذ النظام والدولة، فالخلل القائم منذ تسعينات القرن الماضي يتّسِع، ولا بد من معالجته بإعادة التوازن بدلاً من الحلول الترميمية الترقيعية.
رئيس جديد الآن في الظروف الحالية وفي ظل الانقسام الحاصل سيكون أمام خيار من اثنين: إمّا أن ينحاز الى فريق من الافرقاء، وبالتالي لن يستطيع ان يحكم، وإمّا ان يكون بلا طعم ولا لون ويتصرّف بالمتاح والممكن فتتكرّر تجربة «الرئيس الوسطي» بما فيها من مراكمة أزمات وإشعار حادّ للمسيحيين بمزيد من الغبن والاحباط والتفكير بالهجرة وترك لبنان والشرق… وهذا ما يسعى إليه الغرب وإسرائيل!