تبحث تونس عن رأس الهرم في جسمها السياسي المستحدث منذ تحوّلات عام 2011. بدا أن رئاسة الراحل الباجي قائد السبسي أوحتْ للتونسيين بأن للبلاد زعيما يسكن قصر قرطاج ويسهر متكئا على تجربته وحنكته وطول خبرته لإدارة أمور البلاد بين قوى توالدت لترثَ، بين ليلة وضحاها، حكما أطاح به ما عُرف بأنه “ثورة الياسمين”.
كثيرون تعايشوا مع التغيير الذي أطاح بنظام الرئيس الأسبق زين الدين بن علي دون أن يعرفوا سرّ ذلك التحوّل الانقلابي الذي حصل بصمت وخرج من عتمة ليل لينهي حقبة ويباشر حقبة أخرى.
التقيت قبل سنوات بعبدالفتاح مورو الرجل الثاني في حركة النهضة. كانت حركته حينها تسعى للهيمنة على مفاصل الحكم في تونس وتطلق خطابا منفتحا، مقارنة بما راج من قبل تيارات إسلامية أصولية متطرفة، وتجهد لتقديم نفسها تيارا تونسيا قادرا على التعايش مع خصوصية هذا البلد المصهور ببورقيبية بنيوية من غير السهل إغفالها.
كانت حركة النهضة في ذلك تستند كثيرا على مورو وخطابه، دون أي ثقة من قبل خصوم الإسلام السياسي في تونس بـ”إخوان تونس”، سواء في خطاب زعيمهم راشد الغنوشي، أو في براغماتية نائبه عبدالفتاح مورو.
فاجأني الرجل بالقول “لا نعرف ماذا حصل في قصر قرطاج عشية مغادرة بن علي البلاد”.
كان الرجل يلـمّح في ذلك إلى أن ما أتى بتياره السياسي إلى منابر الحكم في تونس ليس ثورة بالمعنى الذي لطالما رُوِّج له، خصوصا في صفوف الإسلام السياسي، بل ما يشبه “انقلاب قصر” قرر إخلاء تونس من رئيسها، وإعادة إنتاج سلطة تسعى هذه الأيام لوضع رئيس على قمة هرمها. صحيح أن هذا النقاش بات متقادما وأن تونس تعيش تجربتها وقد تجاوزت أسرار تلك الليلة في قصر قرطاج، إلا أن ما رصدْتُه لاحقا في تونس من حنين خجول وأحيانا علني مجاهر به لعهد بن علي يشي أن أهل البلاد مازالوا يسعون للاهتداء إلى تونس الجديدة دون أن يلعنوا تونس العتيقة.
أعاد التونسيون عام 2014 حمل البورقيبية في شخص الباجي قائد السبسي لرئاسة بلادهم. ففي الصدام الذي اندلع بين التيارات المدنية من جهة، والتيارات الإسلامية من جهة أخرى، كانت للتونسيين قولتهم الفصل في حمل ذلك الرجل لرعاية شؤون البلد. بدا أن الثقة تراجعت بكافة التيارات السياسية التي ارتجلها التحوّل الغامض، وكان لا بد من إعادة دفة الحل والربط، رغم ما يعانيه الرئيس من قيود دستورية، إلى البورقيبية من جديد.
رحل الباجي قائد السبسي في 25 يوليو الماضي. بدا أن تونس باتت يتيمة الأب. مشى الناس في جنازة الراحل طواعية مودعين قطعة من تاريخهم. حاول البعض أن يتبرأ من ذلك الجرف العاطفي بالقول إن تونس تغيرت، وأن رحيل رئيس انتخبه الشعب تفصيل يتم تجاوزه وفق تونس الجديدة برئيس آخر ينتخبه هذا الشعب.
يكتشف التونسيون بأن ساكن قصر قرطاج المقبل هو موظف برتبة رئيس. يبحث الناخبون هذه الأيام داخل لائحة المرشحين الـ26 عن شخصية تفيض بالكاريزما والتي يمكن أن تكون ببساطة بديلا عن رئيس راحل. لا زعامات ولا قيادات تاريخية ولا كبير يفرض حضوره. وفيما يتقدم المرشحون بسير ذاتية باردة وبوعود انتخابية فضفاضة، فإن التونسيين الذين يُضجرهم نشاز الحملات الانتخابية هذه الأيام، قد يطربهم من يجيد فن الطرب الذي يروج هذه المواسم في العالم.
والطرب في العالم هو ذلك الذي أتى بدونالد ترامب رئيسا لبلاده، وذلك الذي “أخرج” بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وذلك الذي أنعش تيارات اليمين المتطرف في أوروبا والبرازيل وبلدان أخرى. الشعبوية ملح الكون هذه الأيام، فلماذا لا تكون مادة نسيج يحيكه مرشحو الرئاسة في تونس لصناعة رئيس يطل من قرطاج عليهم خلال السنين المقبلة.
على أن خطاب الشعبوية الذي قد يدغدغ غرائز العامة قد لا يحظى كثيرا بنسب مضمونة من المصداقية في تونس. جاء ترامب من خارج دوائر السياسة في الولايات المتحدة، وروَّجَ للبريكست في بريطانيا تيارات وشخصيات لم ينخرط أغلبها في الحكم، فيما تنهل الشعبوية في العالم قوتها من كون من ردح بها على الأغلب هم من خارج قصور الحكم. بالمقابل فإن المرشحين الأقوياء في رئاسيات تونس هم ممن خبروا الحكم وجالوا في أروقته وسكنوا داخل قلاعه.
إضافة إلى رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد، يتبارى داخل الحلبة رؤساء حكومة سابقون وشخصيات تبوأت مناصب رسمية وشخصيات حزبية وأخرى من عالم المال والأعمال. سيكون يسيرا أن يُرد على من سيعِدُ بمحاربة الفساد والاقتصاص من المقصرين وتنقية الإدارة من الترهل ونفخ الاقتصاد وترشيق التنمية بأسئلة بسيطة: ماذا فعلتم قبل ذلك حتى تَعِدوا بفعل غير ذلك؟ ثم لماذا نثق بوعود في حكم قادم لم يتم الوفاء بها في حكم سابق؟
لا يهم داخل الديمقراطيات مدى الثقة بأصحاب البرامج الانتخابية. ما يهم هو الكيفية التي يتم بها تسويق المنتج وإقناع المستهلك بجدارته في نقل البلد من طور العلّة إلى طور العلاج. ومن الآن وحتى تاريخ إجراء الانتخابات منتصف الشهر الحالي، فإن حكايات كثيرة قد ترشُ توابل على الأطباق وتخصّب الحملة الانتخابية بدسم الحكايات.
في الحكايات أن نبيل القروي، أحد رجال الأعمال المرشحين، اعتقل بعد أن استفاقت بـ”الصدفة” الأجهزة القضائية على انتهاكاته المالية الضرائبية، وأن اعتقاله قد يعظّم مظلومية يتم استثمارها لتعظيم حظوظه رئيسا، وأن “العدل” هو في خدمة الحكم الحالي كما كان في خدمة الحكم السابق.
وفي الحكايات أن حركة النهضة مرت بمخاض داخلي قبل أن ترشح بشقّ النفس عبدالفتاح مورو ليمثلها، وأن أصوات النهضويين قد تتوزع على مرشحين آخرين، منهم النهضوي السابق رئيس الوزراء السابق حمادي الجبالي وحليف النهضة القديم الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي.
وفي الحكايات أيضا أن اللقاء الذي جمع عبدالكريم الزبيدي، وزير الدفاع المستقيل والمرشح للرئاسة، مع الراحل قائد السبسي قبل أيام من وفاته، ترك انطباعا بأن الراحل أوحى للبورقيبيين بأن الرجل وريث يمثل البورقيبية أفضل تمثيل.
وللأيام الفاصلة عن 15 سبتمبر حكايات أخرى.
على أن كل ذلك لا يخفي أن تونس اليوم لا تملك ترجيحا مضمونا لاسم رئيسها المقبل. أكثر من 7 ملايين ناخب مدعوون للاقتراع، ومدعوون بالمناسبة للكشف عن مدى الانقسام الداخلي التونسي لصناعة توافق حول شخص سيكون رئيسا لكنه لن يكون زعيما للتونسيين.
تعجز استطلاعات الرأي عن إعطاء توجهات ثابتة أو استشراف ملامح لمن يمكن أن يكون رئيس تونس المقبل. ربما يعرف التونسيون من هم المرشحون الكبار من لائحة الـ26 مرشحا، لكن عتاة المنخرطين في عالم السياسة في البلد، حتى أولئك الناشطين لصالح هذا المرشح أو ذاك عاجزون عن المخاطرة في توقعات في هذا الصدد.
لن تتضح الأمور وينجلي غبار غموضها إلا حين تنتقل البلاد إلى الدورة الثانية من الانتخابات. استفاق الأميركيون على مفاجأة فوز دونالد ترامب.
نام البريطانيون على فشل استفتاء “البريكست”. نايجل فراج أحد أشهر الشخصيات التي روّجت للـ”بريكست” أقر بالفشل في تلك الليلة، قبل أن توقظه نتائج الصباح على فوز لم يتوقعه. قد يستمر هذا الغموض حتى الساعات الأخيرة، لكن هل ستكون مفاجأة إذا ما فاز فلان على حساب فلان؟
لا يعرف مورو سرّ انقلاب “قرطاج” على بن علي. ربما أن “الدولة العميقة” عملت على ذلك ومازالت تعمل على صناعة الحكم في البلاد. والحال أن أصحاب السباق منكبون على إقناع الناس بعدم العزوف والمشاركة في عملية الانتخاب، لكن لسان حال تونس يقول إن موظفا ساميا سيخرج من صناديق الاقتراع ليكون رئيسا لا يشبه الكبار الذين مضوا.