Site icon IMLebanon

محسن ابراهيم… رجل من الماضي

 

ينتمي محسن ابراهيم إلى الماضي. إلى جيل صنع الكثير من “الإنجازات” وارتكب الكثير من الأخطاء. التجارب التي خاضها الرجل كثيرة وغنيّة وشاملة وجريئة ومثيرة. وقد يكون من القلائل الذين خرجوا بعملية نقد ذاتي لم تتوسّع وبقيت في العناوين. ولكنّه من موقعه الذي تحصّن فيه ولم يخرج منه أو عليه اختار الصمت طويلاً ربما لأنّه وجد أن الأحلام الكبيرة التي سعى وراءها انتهت إلى ضباب.

منذ أكثر من ثلاثين عاماً خرج محسن ابراهيم من دائرة الضوء إلى الظلّ. بقي الرجل وحيداً بعدما غاب رفاقه واحداً تلو الآخر. ياسر عرفات. جورج حبش. وديع حداد. كمال جنبلاط. جورج حاوي… والأهم من هؤلاء كلهم بعدما غابت عنه عناوين القضية التي اعتبر أنّه ناضل من أجلها طويلًا من دون أن تتحقّق وانتهت إلى عكس ما كان يريده. تبدّلت الأسماء والوجوه والأماكن والعناوين التي لم يجد محسن ابراهيم لنفسه مكاناً فيها.

 

الصمت وخيبة الأمل

 

كان من شبه المستحيل الوصول إلى الرجل الذي كان لا يزال بكامل لياقاته الفكرية والجسدية بعد انكفائه منذ العام 1993 وكان من شبه المستحيل إقناعه برواية تجربته أو الخروج بمقابلة تلفزيونية يتحدّث فيها عن تاريخه وسيرته. حتى سؤاله عن وقائع وأحداث محدّدة في المكان والزمان كان مستحيلاً أيضاً. اختار الرجل الذي خابت آماله أن يلوذ بالصمت الذي كان أبلغ من الكلام. ربّما لأنّ مرحلة ما بعد الحرب لم تكن تحتاج إلى رواية ما حصل فيها بل إلى استخلاص العبر والخروج بخلاصات يمكن الإستفادة منها للبناء عليها. ولكنّ تجربة ابراهيم كانت تستحق منه أن يروي وربّما قد يكون فعل من دون أن يعلن.

 

الخبر الوحيد عنه منذ مدة طويلة كان إعلان وفاته في 4 حزيران الحالي. هذا الخبر ترافق مع استعادات من سيرة حياته منذ ولادته في العام 1935 في بلدة أنصار الجنوبية إلى مسيرته السياسية في حركة القوميين العرب ومنظمة العمل الشيوعي والحركة الوطنية ورفقته مع كمال جنبلاط وياسر عرفات وعلاقته مع جمال عبد الناصر وانخراطه في أحداث الحرب الأهلية منذ العام 1975 في لبنان وتمدّد تدخلاته إلى حركات “التحرر” في اليمن وبعض العوالم العربية.

 

أكثر ما تمّ تذكّره عنه أنه في العام 1982 أطلق مع جورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حركة المقاومة الوطنية اللبنانية في 16 ايلول 1982 بعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت. وأكثر ما تمّ التوقف عنده أنه وقف في أربعين حاوي مؤبّناً قائلاً: “الحركة الوطنية ارتكبت خطأين، أوّلهما أنّها استسهلت الحرب الأهلية معبراً لتغيير بنية النظام الطائفي. وثانيهما أنّها أباحت لبنان للمقاومة الفلسطينية، ممّا حمّله فوق طاقته وأدى إلى انشطاره شطرين متقاتلين، في ظلّ تخلّي الدول العربية قاطبة عن التزام نصرة الشعب الفلسطيني ودعم ثورته”. ومن أكثر ما تمّت ملاحظته أيضاً أنه تخلّف عن المشاركة في وضع وردة حمراء على ضريح رفيقه الآخر كمال جنبلاط في المختارة بعد ان حافظ على علاقته التاريخية مع زعيمها وليد جنبلاط.

 

بين اغتيالين

 

المفارقة أنّ كمال جنبلاط اغتاله النظام السوري في 16 آذار 1977 وأن جورج حاوي استشهد بعبوة ناسفة وضعت في سياراته في 21 حزيران 2005 وقضية اغتياله اليوم مدرجة على جدول أعمال جلسات المحكمة الدوليّة الخاصّة بلبنان لارتباطها بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

 

كمال جنبلاط دفع ثمن الخلاف مع رئيس النظام السوري حافظ الأسد وجورج حاوي دفع ثمن الخلاف مع خلفه بشّار الأسد. الثلاثة حاوي وجنبلاط وابراهيم كانوا عماد العلاقة مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. ربما خروج ابراهيم إلى الظل أنقذه من مصير مماثل. فالرجل الذي ينتمي إلى تلك المنظومة بقي أميناً لها. صحيح أنه لم يعمل ضدّها علناً وتنظيمياً ولكنّه بقي معتصماً بحبل أمانة تلك العلاقة ووفيّاً لها إلى درجة أنه لم يفتح أيّ باب للقاء مع ذلك المحور الذي يتمثّل بالنظام السوري وبـ”حزب الله” ولم يغفر له مرارة التجربة السيئة في العلاقة التي كانت بين العام 1976 والعام 1983.

 

صحيح أنّ ابراهيم ما كان ليضيع بوصلة الصراع مع العدو الإسرائيلي ولكنّه لم يكن ممكناً لديه تجاوز ما حصل بين “محوره” و”المحور” السوري. يعرف كيف رافق ياسر عرفات في الأيام الأخيرة قبل خروجه من بيروت في آب 1982 ولكنّه يعرف أيضاً أنّ عرفات عاد وأجبر على الخروج من طرابلس تحت ضغط حصار النظام السوري بعد أقلّ من عام. وهو من موقعه السياسي وتاريخه الذي احتفظ به بقي وفيّاً لتلك العلاقة مع منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات ومع القضية الفلسطينية وطالما كان مساهماً في الوصول إلى اتفاقية أوسلو يبقى من المفارقات أن يعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس تنكيس الأعلام الفلسطينية في ما تبقى من سلطة حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية حداداً عليه.

 

اثنان في واحد

 

الجملتان اللتان قالهما ابراهيم في أربعين حاوي لم تكونا كافيتين. الإعتراف بالخطأين اللذين تمّ ارتكابهما كان يجب أن يستكمل بخطة عمل وبالمشاركة في صناعة خيارات جديدة. هذا ما فعله جورج حاوي مثلاً عندما خرج من إطار الحزب الشيوعي الأم إلى حركة يسار جديدة وذهب إلى تغيير جذري في التعاطي مع المسألة اللبنانية اقتضتها الظروف التي تبدلت وتغيرت بحثاً عن لقاء وطني جديد عابر للإصطفافات القديمة التي كان لها الدور الأبرز في استسهال الحركة الوطنية للحرب الأهلية واعتبارها معبراً ممكناً لتغيير بنية النظام الطائفي. وفي إباحة لبنان للمقاومة الفلسطينية، مما حمّله فوق طاقته وأدى إلى انشطاره شطرين متقاتلين.

 

صحيح أنّ حاوي كان أميناً عاماً للحزب الشيوعي وأنّ ابراهيم كان أميناً عاماً لمنظمة العمل الشيوعي. وصحيح أنّ رفقة “نضال” وعمر جمعت بينهما ولكنّهما بقيا في تنظيميهما المستقلّين ولم يتوحّدا. كان يمكن أن يكون ابراهيم رفيقاً لحاوي في الحزب الذي تأسس في بدايات القرن العشرين ولكنّه اختار أن يؤسّس تنظيماً آخر يعتبر أنه أكثر قدرة فيه على الحركة والعمل بدل أن يكون إطاره تنظيمياً جامداً أو متحجراً. تلك كانت ميزة لبنان الذي انشطر إلى شطرين ولا يزال يعاني من أمراض وأعراض انشطارات جديدة أخطر. بقي الحزب أوسع من المنظمة ولكنّ حاوي مع ابراهيم بقيا أكثر من مجرد رفيقين في تنظيمين.

 

بين العمامة والكوفية

 

في العام 1976 قبل الدخول السوري الكبير إلى لبنان غامر كمال جنبلاط والتقى بشير الجميل ولكنّ المحاولة كانت أصغر من أن تأتي بما يمكن أن يحول دون ذلك الدخول. وبعد العام 1990 غامر جورج حاوي وخرج إلى رحاب جديدة وذهب أبعد من مجرد خلاصات ابراهيم والتقى رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع في غدراس وحاول أن يبني على ما فات جنبلاط وبشير الجميل وكان في قلب الإنتفاضة التي أدّت إلى ثورة الأرز و14 آذار بحثاً عن إعادة توحيد الشطرين اللذين تحدّث عنهما ابراهيم في أربعين رفيقه. مشكلة ابراهيم أنه لم يخرج إلى الدائرة التي ذهب إليها حاوي. أراد أن يبقى في ماضي “الرجل” الذي كانه ولم يبحث عن “رجل” جديد ولو لم يكن “رجلاً” آخر. أدرك أن التوقيع الآخر على ورقة إعلان حركة المقاومة الوطنية اللبنانية قد سقط. ولكنّه قبل ذلك كان أدرك أيضاً أن هذه الحركة قد انتهت بالقرار الذي أنهى جورج حاوي وأدرجت في سجلات التاريخ وأن هناك مقاومة أخرى ولدت بوجه جديد يرتدي عباءة دينية لم تَستهوِه منذ انطلاقته السياسية نحو عمل لا يرتدي العمامات وعاش بين الكوفيات.