Site icon IMLebanon

محسن ابراهيم

 

قد لا يكون أبو خالد آخر السياسيين العرب واللبنانيين الظرفاء والأذكياء والعروبيين والعلمانيين ذوي الكفاءة العالية. هو عاصر في حياته الغنية بالنضال الوطني والقومي والاجتماعي والفكري أمثال هؤلاء، ونسج علاقات وثيقة مع بعضهم وكان يجد تحدياً في مؤانستهم وتبادل الرأي معهم لا سيما الظرفاء منهم، مثلما كانوا هم أيضاً، خصوماً أم مختلفين أم أصدقاء، يحبذون مجالسته.

 

لكن السؤال يبقى في ظل الشح السياسي والفكري الذي يعتري الحياة السياسية العربية واللبنانية: من أين يمكن أن يأتينا سياسي لبناني عربي يتمتع بصفاء وذكاء وثقافة وظرف وفكر وعمق وألمعية محسن ابراهيم؟ هو واحد من النادرين. ترك إرثاً شخصياً ومنهجياً، طبع مرحلة من التاريخ النضالي القومي واليساري والفلسطيني واللبناني، على ما فيها من نجاحات وإنجازات ومن العثرات والأخطاء والنكسات.

 

قد يتطلب سرد أدواره المؤثرة، مع كبار من رؤساء وزعماء وقادة، وتوصيف شخصية محسن ابراهيم، صاحب النكتة السياسية الذكية، ومتذوق الفنون، كتباً. أكان ذلك في مرحلة النهوض القومي وحركة القوميين العرب، أو عند الانتقال إلى الفكر الماركسي اللينيني بعد هزيمة 1967، في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين ثم منظمة العمل الشيوعي، أو عند انطلاقة الثورة الفلسطينية وتأسيس منظمة التحرير، وفي حقبة الحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية، وتعاظم طموحات شريحة من اللبنانيين بالعلمنة والدولة المدنية، وما أحاط تلك الحقبة.

 

من موقعه القيادي نسج علاقات مع أيقونات أو رموز، مثل جمال عبد الناصر وقياديي الثورة المصرية، واليمن الجنوبي وقادة الثورة الجزائرية وقادة يساريين في دول عربية، وجورج حبش ونايف حواتمة وياسر عرفات وكافة قادة حركة “فتح” على الصعيد الفلسطيني. وانعقدت بينه وبين كمال جنبلاط علاقة استثنائية، وكان توأماً لجورج حاوي بقيادة الشيوعيين. أخذته القناعة بأن تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني بالتحرر من الاحتلال لا بد أن تستند إلى نضاله من دون انتظار الدور العربي، نحو الانخراط في دعم الثورة الفلسطينية بأشكال متعددة، تحت شعار استقلالية القرار الفلسطيني الذي كلفه، مثل الفلسطينيين، غالياً في العلاقة مع دمشق. تأثر بهؤلاء القادة وغيرهم، وتمايز عنهم أحياناً، لكن بعضهم تأثروا به، فكانوا يطلبون مشورته عند مفاصل مهمة. أبو عمار كان يحرص على استشارته، في شؤون فلسطينية دقيقة بينها مفاوضات السلام، فكان يبدي رأيه حول مدى تأثير هذا التفصيل أو ذاك على المستقبل الفلسطيني ولاحقاً جرى الأمر نفسه مع الرئيس محمود عباس. كذلك علاقته مع وليد جنبلاط، وأحياناً مع رفيق الحريري، خريج حركة القوميين العرب، الذي عرفه حين عمل في الستينات في مجلة الحرية تحت إشرافه. كثر ممن تخرّجوا من الحركة والمنظمة احتفظوا ببصمة من قيادته لتلك المرحلة.

 

أدرك باغتيال كمال جنبلاط أن لعبة الأمم أدخلت لبنان مرحلة شديدة الخطورة، فانكفأ لأسباب أمنية بعد الدخول السوري، ثم تراجع كلياً عن الأضواء بعد الاجتياح الإسرائيلي العام 1982 لمصلحة العمل السري، إثر إطلاقه مع جورج حاوي المقاومة الوطنية للاحتلال، وبقي حذراً في تحركاته، لاقتناعه بأن الوصاية السورية لن تحتمل الممانعة الوطنية للهيمنة، وأن غلبة الفكر الديني والانتماء الإيراني على المقاومة ضد إسرائيل مشروع يقحم المنطقة في التناقضات المذهبية، لا تحتمله ولا تقبله فسيفساء لبنان.

 

لكن الانكفاء أتاح له القيام بالمراجعة النقدية والاعتراف الجريء بخطأ الانزلاق إلى الحرب الأهلية في السبعينات.