Site icon IMLebanon

ملامح اشتباك جديد يعصف بلبنان

 

كانت خطيئة السياسيين بحق لبنان عظيمة وما زالت، وقد تحوَّلت جريمةً تاريخية منذ 17 تشرين الأول 2019، وصارت كارثية في الأشهر والأسابيع الأخيرة من عهد الرئيس ميشال عون. والآتي أعظم.

مضت حتى اليوم ثلاثة أسابيع على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية جنوباً، والنتيجة هي الآتية: الإسرائيليون منهمكون بورشة الاستخراج من حقل «كاريش». الأميركيون مرتاحون إلى إتمام الصفقة وحصول كل شيء برعايتهم. والأوروبيون حصلوا على حصتهم في التلزيمات وعلى مصدر جديد للطاقة.

 

وأما في لبنان، فلا تنقيب ولا استخراج في الأفق المنظور على رغم إعلان «توتال» أمس أنها ستشتري المعدات اللازمة وتبدأ العمل. لذلك، مستقبل الغاز مجهول، كما مستقبل البلد كله رهن التخبُّط السياسي والدستوري والمالي والاقتصادي.

 

يقول أحد الخبراء: هذه الطبقة التي أهدرت ثروات لبنان بفسادها وجهلها ورفضها الإصلاح، أهدرت أيضاً بفسادها وجهلها فرصة دولية- إقليمية كانت سانحة للنهوض من الحفرة. وفيما الإسرائيليون يسحبون الغاز من حقل «كاريش» في عمق البحر، اللبنانيون يسحبون الغاز من «قانا» على الورق. وفي عبارة أخرى: «هذا الاتفاق بِلّوه واشربوا مياهه»!

 

كان الإسرائيليون في حاجة إلى «الصكّ» الذي يسمح لهم ببدء التنقيب. فمن دونه سيغامرون بخلق توتر أمني وعسكري في المنطقة البحرية بل في المنطقة الحدودية بكاملها، لأنّ «حزب الله» أطلق تهديدات جدّية في هذا الإطار. وقد حصلوا فعلاً على هذا «الصكّ» وانصرفوا إلى الاستثمار تاركين للبنان أن يتدبَّر أموره في «قانا».

 

لم يعد لبنان يمتلك التبرير لمنع إسرائيل من استثمار الغاز من «كاريش» وسائر حقولها في المتوسط قبل أن يبدأ الاستثمار في «قانا». فهي أعطته في الترسيم ما أراد، وخرج راضياً ومحتفلاً بالانتصار.

 

واليوم، يبدو ملف الغاز اللبناني متعثراً من دون مبررات واضحة، بدءاً من «قانا»، حيث لا يُعرف متى ستبادر شركة «توتال» إلى استقدام منصة التنقيب، وحيث يمكن أن تدور مفاوضات لا تنتهي بين الشركة والجانب الإسرائيلي- يوماً ما- حول مسألة الأرباح (17%)، وقد تستغلها إسرائيل بخبثٍ لتأخير الاستخراج في لبنان إلى أجل غير مسمّى.

 

وللتذكير، إنّ عملية التنقيب التي نفّذتها شركة «توتال» في البلوك الرقم 4، قبالة الشاطئ الشمالي، أظهرت عدم وجود كميات من الغاز كافية تجارياً. وهذه النتيجة، على رغم أنّها قوبلت بتساؤلات وشكوك في الجانب اللبناني، فإنّ أحداً لا يستطيع نقضها. فماذا لو تكرّر السيناريو في البلوك 9 أو سواه؟

 

وفي الموازاة، يتعثر لبنان في إطلاق مفاوضات الترسيم مع سوريا، إلى أجل غير مسمّى، إذ لا يستطيع أن يستخدم مع السوريين أدوات الضغط التي لوّح بها في مواجهة إسرائيل. وكذلك، في مفاوضاته مع دمشق، سيكون لبنان أمام سلّة ثقيلة جداً من الملفات ذات الاهتمام المشترك، وأبرزها النازحون. وقد لا يبدأ بحلحلة ملف حتى ينتقل النقاش إلى ملف آخر.

 

مشكلة لبنان هي أنّه اليوم لم يعد يمتلك الأوراق الضاغطة لاستثمار مخزونات الغاز في البلوكات البحرية الحدودية جنوباً وشمالاً، فيما ورشة البلوكات الأخرى لم تنطلق. وبالتأكيد، لن تكون الشركات متحمسة لدخول السوق اللبنانية قبل أن تحصل على الضوء الأخضر السياسي دولياً، وهذا الضوء يبدو متأخّراً.

 

ومن الإشارات إلى ذلك مثلاً، أنّ لبنان الذي قدّم التسهيلات اللازمة للموفد الأميركي عاموس هوكشتاين لإمرار اتفاق الترسيم جنوباً، لم يحصل على جائزة ترضية على الأقل تحلّ له جانباً صغيراً من معضلة الكهرباء التي يغرق فيها. وهذه الجائزة كان يمكن أن تكون السماح له ببدء الحصول على الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، ما دام قد أظهر «نياته الحسنة».

 

بل إنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سيحاول استمزاج رأي الأميركيين إذا كان قبول هبة الفيول الإيرانية ستعرّض البلد للعقوبات أم لا. وسيكون جواب الأميركيين رهناً بحلحلة التشنج وإنهاء «الكباش» الحاصل بين واشنطن وطهران على الساحة اللبنانية. وكان البعض يعتقد أنّ اتفاق الترسيم الذي شارك «حزب الله» في صناعته بفاعليةٍ، يُترجم انفراجاً في العلاقات الأميركية- الإيرانية في الدرجة الأولى.

 

والأرجح أنّ المناخ الدولي يشهد اليوم انتظاراً ثقيلاً لتحوّلات عديدة في المشهد، بعد الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة وعودة اليمين إلى الحكم في إسرائيل ونهوض أحزاب اليمين في أوروبا، وملامح الحوار الأميركي- الروسي حول أوكرانيا. وأبرز ما يعني لبنان هو الجمود في ملف إيران النووي، لأنّ انعكاساته مباشرة على أزماته.

 

وتبدو القوى اللبنانية الداخلية فاقدة تماماً للإرادة وللقدرة على التقدّم خطوة نحو الحل، في غياب الدفع الدولي والإقليمي. وبدءاً من اليوم، يمكن الحديث عن مرحلة أكثر سواداً ستبدأ، نتيجة الانفجار النقدي والمالي والاجتماعي المتوقع في الأيام والأسابيع المقبلة، يغذيها التعثر السياسي والفراغ الدستوري، ما ينذر باشتباك عنيف آتٍ، لا يُعرف بين مَن ومَن تحديداً، وإلى أين سيقود.