يُستخدم لتمرير ما يصبّ في مصلحة السلطة وأركانها… ويُضرب بشروطه الإصلاحية الحقيقية عرْض الحائط
إستطاعت السلطة بدهائها تحويل حلّ واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية العالمية إلى “حزّورة”. الهدف منها، ليس تحفيز المعنيين على “حك رؤوسهم” والخروج بأفضل الحلول، إنما “إعجازهم” لتبقى الأزمة مفتوحة على احتمالات تحميل المودعين والمواطنين العبء الأكبر من الخسائر المحققة.
في كلمته المسائية في جلسة مجلس النواب المخصصة لمناقشة البيان الوزاري، قال الرئيس نجيب ميقاتي: “بدأنا بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي. والأمر ليس نزهة. ونحن مضطرون للقيام بهذه الخطوة”. الأمر الذي أثار التساؤلات عن كيفية البدء في المفاوضات قبل الاتفاق على الخطة الاقتصادية، وتقسيم الخسائر، وتحديد الفريق المفاوض، ومواعيد الجلسات التي يعلن عنها صراحة. فهل تسرّع الرئيس ميقاتي في الإعلان؟ أم أنه تقصده، للايحاء بان ما يجري متفق عليه سابقاً، وسيكون المقدمة للمفاوضات المستقبلية؟
تبيان حجم الخسائر
رئيس مجموعة FFA PRIVET BANK جان رياشي يعتبر أن الحكومة الحالية وحّدت جميع الأفرقاء في السلطتين السياسية والنقدية في فريق واحد. فلم يعد “المركزي” طرفاً معادياً للحكومة، بعدما تمثل فيها بقوة في وزارة المالية. والأرجح أن الفريق اللبناني الجديد سيبدأ في المفاوضات من حيث انتهت الارقام المقدمة من المركزي ولجنة المال والموازنة النيابية. وعليه فان “لغم” الاشكالية الأساسية المتمثلة بكيفية توزيع الخسائر، أي الإلتزامات غير المسددة، الذي فجّر الوفد اللبناني من الداخل، “دُفن” تحت طبقات كثيفة من “ردميات” الانهيار الاقتصادي طيلة الفترة الماضية”.
بالاضافة إلى “تركيبة” الحكومة الجديدة، فان “الظروف ساعدتها على تخطي العقبات الأربع التي واجهت سالفتها والمتعلقة بشكل أساسي بتحديد الخسائر”، بحسب رياشي، حيث:
– أصبح من الأسهل تحديد خسارة المصارف على القروض للقطاع الخاص. خصوصاً بعدما توضح حجم الانخفاض الحقيقي للناتج المحلي الاجمالي.
– لم يعد من داع للاختلاف على إخضاع سندات الدين بالليرة إلى “هيركات” كما طالبت “لازارد”. ذلك أن تدهور سعر الصرف اقتطع قسماً أكبر من الدين.
– تراجع سعر سندات الدين بالعملة الأجنبية “يوروبوندز” إلى 20 سنتاً للدولار الواحد، أي أن الخسارة تبلغ 80 في المئة. وبما ان مصرف لبنان يحمل 5 مليارات دولار من هذه السندات فان حجم خسائرة يبلغ 4 مليارات دولار. كذلك الأمر بالنسبة إلى المصارف التجارية اللبنانية التي تحمل أكثر بقليل من 10 مليارات دولار. وفي جميع الحالات فان الخسارة تتوقف على المفاوضات مع الدائنين الأجانب الذين سيحاولون تحقيق القدر الأكبر من المكاسب. إلا انه في العادة وفي حالات مشابهة فان الخسارة تتراوح بين 65 و75 في المئة. وعادة ما يقبل الدائنون استرجاع لحدود 30 في المئة على السندات المحمولة. وهي الخسارة سيتحملها مصرف لبنان والمصارف التجارية من “اليوروبوندز”، مع العلم أن الخسارة الكبيرة ستكون على الدائنين الأجانب.
– يبقى أن مصدر الخسارات الكبيرة سيكون ودائع المصارف في مصرف لبنان التي تبلغ نحو 80 مليار دولار. وهنا المشكلة أن مصرف لبنان لا يملك فعلياً إلا نحو 31 مليار دولار تنقسم بين 14 ملياراً توظيفات الزامية واحتياطي الذهب، الذي يتغير سعره تبعاً لتغير أسعار الذهب عالمياً، وهو يقدر حالياً بـ16.3 مليار دولار، قياساً على وجود 9221 مليون أونصة. وبالتالي فان هناك خسارة تقدر أقله بـ50 مليار دولار. هذه الخسائر ستتحملها المصارف وكذلك المودعون والمساهمون.
عقدة التوزيع
بناء على هذا الواقع المستجد فان من سيتحمل توزيع الخسائر هم أصحاب الرساميل والمودعون، وهناك جهة ثالثة ممكن أن تتحمل وهي الدولة، من خلال أصولها لتغطية جزء من الخسارة. إلا ان هذا “موضوع جدلي كبير” برأي رياشي، “ذلك أنه في مقابل اعتراض البعض على استعمال ممتلكات الدولة لتغطية خسائر المودعين، يعتبر البعض الآخر أن كل المواطنين استفادوا من الهندسات المالية وتثبيت سعر الصرف الذي يدفع ثمنه اليوم المودعون. وبغض النظر عن هذه الاشكالية يعتبر رياشي أنه من “غير المعلوم ماذا سيكون موقف صندوق النقد. فمشكلة الاخير مع استعمال أصول الدولة لتغطية الخسائر لا تتعلق بفلسفة الغاية منها، إنما لأن بقاء هذه الاصول في يد الدولة يساهم باطفاء خسائرها وتخفيض العجز في موازنتها، سواء من خلال بيعها أو تخصيصها أو استخدامها بشكل جيد. وبرأي رياشي فان الكل يتطلع على “خلطة” توزيع الخسائر. والمقترحات تتوزع بين تحويل جزء من الودائع إلى الليرة واعطاء الباقي سندات أبدية لا قيمة لها أو أسهم في المصارف. إلا أن هذا الموضوع لا يؤثر على المفاوضات. وما يجب بحثه بشكل جدي مع “الصندوق” هو الآلية والجهة التي ستضطلع بعملية التوزيع والمتابعة، والتي يجب أن تكون مستقلة عن مصرف لبنان. ويجب أن تعنى أيضاً باعادة رسملة المصارف و”ضبضبة” القطاع، إذ لم يعد هناك من حاجة إلى 60 مصرفاً توسعت على حساب وضع الاموال في مصرف لبنان وتقاضي الفوائد”. أما في ما خص الرسملة فيعتبر رياشي أنه “إذا لم تتم معالجة هذا الخلل لن نتمكن من إقناع المستثمرين في ضخ رساميل طازجة في القطاع المصرفي. ومن هنا يأتي الدور والأهمية القصوى للآلية التي تجيب عن الاسئلة التالية: من يأخذ القرارات ويضطلع بعملية التصفية والمدمج والادارة الموقتة. وهذا يتطلب من وجهة نظره خلق هيئة مستقلة وتشريعاً كامل الصلاحيات لها.
الهروب إلى الامام
المدير السابق للمحاسبة العامة في وزارة المالية امين صالح يرى من جهته أن “هناك خطة مالية نقدية اقتصادية متفقاً عليها بين صندوق النقد الدولي وكل من السلطات السياسية والنقدية والمالية في لبنان. وقد نفذ القسم الأكبر منها، والباقي هو استكمال الدعم ووضع أملاك الدولة ومرافقها العامة في يد القطاع الخاص عبر مشاريع الشراكة”. وبرأيه فانه جرى إفشال خطة التعافي، (كان صندوق النقد يميل لها في تحديد الخسائر) من قبل المركزي ولجنة المال والمصارف التجارية، لانها كانت ستقود إلى أكثر ما يخشونه، وهو توزيع الخسائر ومن يتحمل عبئها. وعليه فان الصندوق كان واضحاً لجهة ضرورة تخفيض سعر الصرف، ورفع الاسعار، ورفع الدعم… وهذه الشروط طبقت جميعها”. إلا أنه بحسب صالح فان الصندوق “نظر بـ”عينيه الإثنتين” إلى الوضع في لبنان من خلال إعراب ممثله في تموز العام الماضي أن خطة التعافي ما زالت تمثل نقطة إنطلاق صالحة ولكن عليها تحديث أرقامها. بينما الحكومة الحالية تقول في بيانها الوزاري: تحديثها أي تحديث الخطة، والفرق كبير، والسلطة ستعيد البحث بخطة التعافي بالارقام ولكنها لم تكتب في بيانها الوزاري كيف ستوزع الخسائر. أي أن السلطة تهرب الى الأمام، بينما مطالب الصندوق واضحة”. وبحسب صالح فان “توزيع الخسائر يعني تحميل من استفاد من فوائد الدين العام أي المصارف وكبار المساهمين والمودعين والمصرف المركزي، وبعض الأفراد والمؤسسات الصغيرة، عبء الخسارة. فيما الذي يجري اليوم أنهم ذاهبون إلى المفاوضات محمّلين العبء الأكبر للمواطنين، من خلال رفع الدعم وسعر الصرف وكأن شيئاً لم يكن. ومن وجهة نظر صالح إن “لم يجرِ تحديد حجم الخسائر بدقة وكيفية توزيعها بعدالة لن نخرج من هذا الانهيار الكبير. خصوصاً أن القسم الأكبر من الانهيار مفتعل نتيجة التضخم النقدي والمالي لتخفيض الخسائر على المصارف ومصرف لبنان وكبار المودعين”. وعليه فان غاية الحكومة هي “استكمال المفاوضات تحت غطاء صندوق النقد ومساعدته، و”سيدر” ومساعدته، واستمرار الوعود بالاصلاحات لكي نصل إلى الانتخابات. وفي حال جرى التجديد للطبقة السياسية يعني أن المواطنين موافقون على خططها، أما إذا جرى تغييرها فيكون عندها لكل حادث حديث.
العراقيل كبيرة
بالاضافة إلى إشكاليات الصراع على توزيع الخسائر والعمل المحترف لبلورة آلية المتابعة عبر لجنة مستقلة متخصصة، يرى الخبير الاقتصادي د. وليد أو سليمان أن هناك عقداً كثيرة تواجه استئناف المفاوضات مع الصندوق، ومنها: إعادة هيكلة القطاع العام ونحن على أبواب الانتخابات، موافقة مجلس النواب على الخطة في حال توصلوا لها، خصوصاً أنها تتطلب موافقته على القرض الذي سيحصل لبنان عليه بموجب الاتفاق، العمل بمتطلبات الشفافية والمحاسبة، وقف التهريب، التوصل إلى نتائج في التدقيق الجنائي، إقرار قانون الكابيتال كونترول… وغيرها الكثير من الأمور التي من المفترض أن تحصل في فترة زمنية قصيرة جداً لا تتعدى 8 أشهر. وبرأي أبو سليمان فان “المفوض على توقيع اتفاقية التعاون مع الصندوق نيابة عن الحكومة هو وزير المال، المعروفة خلفياته. وبغض النظر عن كفاءته فان السؤال عن مدى قدرته على إدانه نفسه”.
أمام هذا الواقع يصح القول أن “الصندوق” سيُستعمل كمظلة لتمرير ما في مصلحة السلطة عـ”القطعة” من دون أن يكون باستطاعة هذه الحكومة التوصل إلى اتفاق جدي معه، يقوم على الاصلاحات الهيكلية والبنيوية في الاقتصاد والقطاعات النقدية، قبل أن يستفيد لبنان من تقديماته المالية.