في لبنان في كل عرس قرص. وكل قضية تصبح فضيحة عندما ينحشر الساسة الفطاحل، فيصبح كل صحافي خبيراً مالياً واقتصادياً، وكل نائب أو وزير مرجعية، خصوصاً عندما يحاضر مع عبسة وصوت جهوري. امّا إذا ما أعطى صاحب خبرة مالية رأيه في السياسة فتنهال عليه النصائح ان يلتزم حدوده.
كما في قضية التصنيفات الائتمانية المتلاحقة، أصبح موضوع صندوق النقد الدولي قضية رأي عام على كل لسان، من بائع الخضار الى أعلى رتبة من المسؤولين. أحزاب وشخصيات أصدرت مواقف سياسية من صندوق النقد سلبية، وقبل أن يصدر وفده أي رأي في ما استنتجه خلال زيارته، والمعلوم أنّ هذا الوفد قدم الى لبنان بدعوة من رئيس الحكومة الذي تم اختياره من قبل نفس الاحزاب التي أصدرت تلك المواقف. وكذلك تمّت الدعوة من وزير المالية الذي يعتبر من رجالات تلك الأحزاب.
المواقف السلبية كانت ايضاً من شخصيات ذات جنوح يساري تعتبر انّ صندوق النقد يعتبر من ادوات «الامبريالية العالمية» التي تسيطر عليها القوى الغربية، وتستعملها للابتزاز السياسي في حماية مصالحها الدولية. كما انها تعتبر أنّ ما من دولة تعاملت مع صندوق النقد، إلّا وأصبحت اكثر بؤساً وفقراً من قبل لو سَلّمنا جدلاً انّ كل هذه الإتهامات صحيحة، وأنّ صندوق النقد هو رمز «الشر العالمي»، وأنه يتخفّى برزمات الاصلاحات، وكأنها وصفة جاهزة بغرض إغراق الحكومات اكثر، حتى تصبح كالمدمن على المخدرات، فيها سعادته ويغرق أكثر من بؤسه. لكن هل سأل أحد ما، وكما قلنا انه أتى بدعوة رسمية، هل سأل لماذا تضطر حكومة ما، كالحكومة اللبنانية الى استدعائه؟ أليس ذلك بسبب فشل إدارة الدولة وماليتها، وفساد وهدر القائمين عليها؟ أليس ذلك، بسبب نهب ثروات الشعب، ثم يتم اتهام صندوق النقد بذلك فوراً وقبل مغادرته؟
ألا يحق للمواطن ان يصرخ عالياً أنكم انتم ايها المقترفون الناهبون الفاسدون، وليس أيّ طرف آخر، مَن جعلتمونا وجعلتم دولتنا تستجدي الخارج؟ ألم تشحدوا قبلاً في باريس 1 و2 و3 وكنتم تطمحون الى الاستجداء في «سيدر»؟. وصلت الودائع في المصارف الى نحو 189 مليار دولار في مرحلة ليست بعيدة، أي ما يقارب 400% من الناتج، حتى اختنقت بها المصارف، وبدلاً من أن تغتنموا هذه الفرصة الفريدة التي تتمنّاها دول عدة لتنمية الاقتصاد وتنظيم الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات، أسأتم أمانتها في مزاريب فسادكم، ثم استجدَيتم المجتمع الدولي في المؤتمرات، حتى ضاق بكم ذرعاً، وأصبحتم مادة دسمة له وللصحافة العالمية للحديث عن فسادكم وإنتاجكم للدولة الفاشلة.
بدأت القصة خلال «اتفاق الطائف» وظهور رفيق الحريري بصفة المنقذ. تم الاتفاق على إعطائه صلاحيات مطلقة في تسوية تاريخية سعودية ـ سورية بغطاء دولي، وبدأنا نسمع بالحريرية السياسية، وكأنها إيدولوجية عقائدية بهوية ما سمّي «السنيّة السياسية». إقتنع الحريري الأب منذ اليوم الاول انه لن يستطيع السيطرة على شركة «دولة لبنان» ما لم يعط مجاناً أسهماً للشيعية السياسية والدرزية السياسية، كلها ألقاب لا علاقة فعلية للمذاهب والاديان بها.
نقل الحريري الأب السياسيين اللبنانيين من ذهنية الليرة اللبنانية الى لذة الدولار الاميركي، ونقلهم من القناعة «بآلاف الليرات» الى مفهوم «ملايين الدولارات». ولإنجاز ذلك أشبع أيضاً عرّابي السياسيين في لبنان، اي مراجعهم في تلك الحقبة من الموكلين في الوصاية السورية.
مرّت سنوات بدأت خلالها الاطراف المسيحية تستعيد زخمها بعد غربة او نفي او سجن. وبدلاً من ان تستفيد من تجربة الحرب الاهلية لتطلق مشروع دولة عصرية مدنية، طمحت بعض الاحزاب المسيحية للحصول على حصتها في نظام المحاصصة، وبمفعول رجعي. لم يكن كل هذا ليتحقّق لولا المساومة مع البعض، او التغاضي عن البعض الآخر، من قبل المقاومة الاسلامية التي استنتجت منذ زمن، انّ لبنان غير قابل للاصلاح، وانها ترتاح اكثر الى تسوية غير معلنة عنوانها: «نستمر في رسالتنا ومشروعنا العقائدي في المقاومة، نترك لكم مغانم الدولة ومقدراتها. لنا مالنا، ولكم مالكم».
هذا هو الجسم اللبناني الذي تكوّن منذ 1989 حتى اليوم. لكنّ الجسم ما كان لينشط بلا دم. هذا الدم ومكوّناته كان المال ثم المال ثم المال. هنا برز دور مصرف لبنان المركزي وسيطرته على القطاع المصرفي. أي مصرف لا ينضمّ الى هذا النظام، ولو اعتبر انّ فيه مخاطر كبيرة، كان يُعاقب بخسارة حصته السوقية، وعدم جذبه الودائع اللازمة للمنافسة. دُفِعت للمصارف والمودعين فوائد غير مسبوقة في تاريخ الدول بتثبيت سعر الصرف، وبات لا فارق بين الليرة والدولار. وديعة الليرة بـ 30% أصبحت كوديعة بالدولار بهذه النسبة، ولإنجاز وتحصين نظام الاغراء ثم الترويج للمغتربين كما المقيمين، انّ اموالكم في القطاع المصرفي آمنة، وانّ هذا القطاع له صدقية عالمية، كما مصرف لبنان، حتى قيل انّ لبنان لم يتأثر بأزمة 2008 العالمية لأنّ نظامه المصرفي محافظ، وانّ دينه داخلي، وانّ مصرف لبنان منع المصارف من الاستثمار الخارجي حتى لا يتعرض للمخاطر.
كل هذه التطبيقات كانت من أدوات التزوير، فلو سمح للمصارف الاستثمار في الخارج لتوزّعت مخاطره بدلاً من ان تكون كل اموالها ديوناً للدولة او ودائع في مصرف لبنان، والتي أساء حاكمه رياض سلامة أمانتها فاستعملها بدوره لتمويل كل زواريب الفساد، حتى وصل الى أن أعماه طموحه لرئاسة الجمهورية. ولو كانت ديون الدولة اكثرها خارجية لا داخلية، لكان وضع الخزينة اليوم افضل من ان تكون كل الاموال عرضة لسوء أمانة الداخل.
الجميع صنعوا الكذبة وصدقوها، وأعمتهم المغانم. المودعون الابرياء واكثرهم في الاغتراب، ثقافتهم المالية محدودة، اعتمدوا على شبكة العلاقات العائلية والاجتماعية مع اصحاب المصارف ومديريها للاطمئنان. أصحاب المصارف صدقوا كذبة انّ اموالهم في مصرف لبنان في خير، وحاكمه صدّق نفسه وما يزال، أنه اسطورة قد يكتب عنها في كتب الجامعات مستقبلاً، نعم ستكتب هذه الكتب عن انّ لبنان وشعبه تعرّضا لأكبر عملية تضليل في تاريخ الدول. فجأة صَحا الجميع على المأزق يبحثون عن المخارج، ولكنها كلها مغلقة لأنّ العملة الفعلية قد صُرفت أو سُرقت أو نُهبت، ولم يبق سوى أرقام دفترية للمودعين في المصارف، وللمصارف في مصرف لبنان. أصبح الجميع في مأزق، بمَن فيهم الاحزاب المتحاصصة والمقاومة التي ساوَمت معهم. لا احد سيعترف بخطأه ولا احد سيعتذر عمّا سَبّبوه وما سيسببونه من مآس لشعبهم، بل على العكس، يصرّحون وسيصرّحون عن قلقهم على الاوضاع، ويقترحون الاصلاحات المطلوبة، وكأنهم ضحايا، لا جلادين.
وتسألون ثم تحتجّون على صندوق النقد، حسناً أطردوه. ما مشروعكم؟ من فريقكم؟ ما هي عدة شغلكم؟ ما هي مقدّراتكم غير الشحادة؟
اذا كان صندوق النقد «شيطاناً إمبريالياً» فأنتم من رفعتم له التحية، ودعوتموه الى النوم في غرفة نومكم. لعلكم لا تتوهمون انّ التباين بين الموقف الفرنسي والاوروبي من جهة، والاميركي من جهة اخرى، هو حول من هو أكثر غيرة عليكم. أنتم من رَسّختم ضعف الخاصرة اللبنانية، فجعلتم لبنان عرضة للابتزاز والتناتش الدولي، بما فيه ما قد يُكشف من غاز ونفط في بره وبحره. واذا ما صحّت التوقعات واكتشفت كميات تجارية منهما، فأنتم لن تترددوا في بيعه بآجال آتية، وبأسعار محسومة، فقط لتغطّوا على ذنوبكم السابقة، فتبيعوا ثروات الجيل الآتي بعد تبديدكم لثروات جيل آبائنا وجيلنا.
فقط عند إجاباتكم عن الاسئلة المطروحة أعلاه، يمكن الاجابة حينها عمّا إذا كان صندوق النقد الدولي ملاكاً أم شيطاناً؟