أكد الخبيران الدوليان غربيس إيراديان ومحمد الحاج، في مقابلة مع «الجمهورية»، انّ لبنان لن يستطيع الخروج من أزماته الاقتصادية والمالية الحالية من دون برنامج صندوق النقد الدولي، موضحين انّ إصلاحات صندوق النقد، على عكس ما يتم الترويج له، مصممة لتلائم جوهر الأزمة المطروحة وظروف البلد المعنيّ. كما انّ شروط البرنامج وحجم الدعم المالي المطلوب تتم صياغتها وفقاً لحاجات البلاد، مقدّرين حجم التمويل المطلوب بحوالى 28 مليار دولار لمدّة 5 سنوات.
- كيف يمكن ان تعاد هيكلة الدين العام بطريقة منظمة بعد اعلان الدولة اللبنانية تخلّفها عن السداد؟
يعتقد غربيس إيراديان، كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي IIF ومقره واشنطن، أن الالتزام بالمبادئ من جانب كل من الدولة اللبنانية وحملة السندات السيادية سيسهم بشكل كبير في تحقيق إعادة هيكلة منظمة وعادلة للدين العام مع تجاوب عدد كبير من المستثمرين في السندات. وعلى وجه التحديد، فإنّ أي عملية إعادة هيكلة الديون، تتطلب بشكل ضروري إجراء مفاوضات مبكرة بين ممثلين عن الدائنين من القطاع الخاص وممثلين عن السلطات اللبنانية، بشأن أهداف الخطة الاقتصادية المتكاملة التي ستنفذها الدولة في السنوات المقبلة، بما في ذلك السياسة المالية العامة والإصلاحات الهيكلية وتوقعات معدلات نمو الناتج المحلي الاجمالي ونسبة الدين العام من الناتج، في ظل السيناريوهات المحتملة لإعادة هيكلة الديون.
- كيف يمكن استعادة ثقة الأسواق المالية والتخفيف من الضغوط على قدرة البلاد على سداد استحقاقاتها ووضع الدين العام على مسار تراجعي ومستدام؟
يشير إيراديان إلى أنّ التنفيذ الصارم وفي الوقت المناسب للبرنامج الاقتصادي للحكومة اللبنانية، والذي أعلن عن عناوينه مؤخراً رئيس الوزراء وجاء في بيان مجلس الوزراء، سوف يعيد ثقة القطاع الخاص والاسواق العالمية، ويرفع قدرة البلاد على الوفاء بالتزاماتها بعد إعادة هيكلة الديون، ووضع نسبة الدين العام على مسار تراجعي واضح ومستدام.
الحاج
- لا تنحصر أزمة الدولة اللبنانية بالدين الخارجي، بل هناك فجوة مالية كبيرة لدى مصرف لبنان. كيف يمكن التعامل مع هذه الفجوة؟
يشير السيد محمد الحاج، وهو لبناني عمل لدى صندوق النقد الدولي لمدة 27 عاماً في مساعدة البلدان على معالجة مشاكل الاقتصاد الكلي وتصميم برامج التكيّف الاقتصادي لاستعادة الاستقرار المالي، الى أنّ نسبة كبيرة من أصول البنوك التجارية (أو ودائعها من العملات الأجنبية) مودعة في مصرف لبنان. وقد استخدم مصرف لبنان هذه الودائع لدعم سعر الصرف المبالغ في تقييمه بالاضافة الى دعم عجز ميزان المدفوعات، علماً انّ اصول البنوك التجارية المودعة لدى مصرف لبنان هي ودائع القطاع الخاص لدى البنوك المحلية. وبالتالي، نظراً للأزمات المالية والمصرفية السائدة في لبنان، ستكون هناك حاجة ملحّة لإعادة هيكلة الميزانيات العمومية لكل من مصرف لبنان والمصارف التجارية. ونتيجة لذلك، ستحتاج البنوك اللبنانية إلى إعادة هيكلة ودائع القطاع الخاص، وهو ما يمكن إنجازه بطريقة تحمي صغار المودعين.
- ما هي الاجراءات المطلوبة للتعاطي مع أزمة شح الدولار في البلاد؟
يشدّد الحاج على أنه من دون وجود برنامج اقتصادي شامل يعالج كلّاً من العجز المالي والعجز في ميزان المدفوعات، ومن دون إعادة هيكلة كل من البنوك التجارية ومصرف لبنان، سيظل لبنان يعاني نقصاً في العملات الأجنبية، وسيستمر نظام سعر الصرف المزدوج المعمول به حالياً، في إحداث المزيد من الضرر بالاقتصاد، وسيؤدّي على الأرجح إلى نقص في بعض السلع. من أجل تجنّب المزيد من التدهور في الاقتصاد وإزالة عقبة رئيسية أمام أنشطة القطاع الخاص، أرى أنّ على الحكومة، بعد اعتماد برنامج إصلاح شامل، النظر في توحيد السعرين وتعويم سعر الصرف، علماً انه مع تنفيذ برنامج الاصلاح وتأمين التمويل الخارجي الكافي، يمكن أن يستقر سعر الصرف الموحد لا بل قد يشهد ارتفاعاً.
إلزامية الدعم الخارجي
- هل يمكن للحكومة ان تستعيد عافية الاقتصاد والنظام المالي والنقدي من دون دعم خارجي؟
يرى الحاج انه بالنظر إلى عمق الأزمات الاقتصادية والمالية، والفجوة التمويلية الخارجية السنوية الضخمة، فإنّ لبنان سيحتاج إلى دعم خارجي. ولن تدعمه أي دولة أو مؤسسة مالية دولية من دون وجود برنامج لصندوق النقد الدولي. أكثر من 110 دول من أصل 193 دولة كانت بحاجة إلى صندوق النقد الدولي في العقود الماضية. وبما أنّ الحكومة اللبنانية تخطّط لتطبيق برنامج إصلاح شامل، لا أرى ما المانع من إشراك صندوق النقد الدولي في مثل هذا البرنامج لضمان فعالية التدابير، والتأكد من أنها مصمّمة بطريقة تحمي أكثر فئات المجتمع ضعفاً. يمكن تصميم برنامج صندوق النقد الدولي عبر تضمينه شبكة أمان اجتماعي متماسكة، كما سيقدّم صندوق النقد الدولي بالتنسيق مع المؤسسات المالية الدولية الأخرى (بما في ذلك البنك الدولي)، المساعدة الفنية اللازمة لإعادة هيكلة النظام المصرفي ومعالجة القضايا الهيكلية في الاقتصاد.
- هل يمكن لأي خطة إنقاذ ان تُغني الدولة عن مساعدة صندوق النقد الدولي؟
يلفت الحاج إلى أنه سيكون من الصعب للغاية على السلطات اللبنانية أن تنجح في إصلاح واستعادة استقرار الاقتصاد الكلي بدون برنامج صندوق النقد الدولي والدعم المالي الكافي من المجتمع الدولي. حاولت العديد من البلدان التي واجهت أزمات اقتصادية ومالية أقل حدّة، علماً انّ لديها مؤسسات أقوى بكثير، معالجة مشاكلها الاقتصادية بمفردها، لكنّها لم تفلح. وانتهى بها الأمر إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي بعدما باتت أوضاع مجتمعاتها أكثر بؤساً وفقراً. من المهم التشديد على أنّ المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة تطلب من البلدان التي تعاني ضغوطاً مالية، التقيّد ببرنامج صندوق النقد الدولي، قبل الموافقة على تقديم الدعم المالي لها. وبالتالي لن يكون لبنان الاستثناء الوحيد في هذا الاطار. يسود في لبنان مفهوم خاطئ وخطير حول برامج تمويل صندوق النقد الدولي.
وهنا، يقول إيراديان من جهته، انّ الخبرات المكتسبة من العديد من الاقتصادات النامية والناشئة تظهر أنّ برنامج الحكومة المدعوم من صندوق النقد الدولي يقلّل من حدّة الاجراءات القاسية المطلوبة ويهدف إلى تحقيق انتعاش أسرع مقارنة بما كانت ستكون عليه الاوضاع من دون دعم الصندوق. بالاضافة الى ذلك، فإنّ الدعم المالي المقدّم من قبل صندوق النقد الدولي يكون وفقاً لأسعار فائدة منخفضة (حوالى 1.2 %). وليس صحيحاً أنّ برنامج صندوق النقد الدولي المحتمل تنفيذه مع لبنان سيكون أصعب مما هو مطلوب. على سبيل المثال، لن يوصي صندوق النقد الدولي برفع معدل ضريبة القيمة المضافة في بيئة ينكمش فيها الاقتصاد اللبناني للعام الثالث على التوالي. كما أنّ صندوق النقد الدولي لن يقتطع من الأجور بما يتجاوز ما تخطّط له السلطات اللبنانية. لكنّ صندوق النقد الدولي سيصرّ، كما تنوي الحكومة الحالية، على إصلاح قطاع الكهرباء بهدف إلغاء التحويلات المالية إلى مؤسسة كهرباء لبنان في غضون 3 سنوات.
التعاون مع الخارج
- ما هي العناوين العريضة لخطة الانقاذ المطلوبة؟
يشير إيراديان إلى أنّ ما يحتاج لبنان القيام به حالياً هو التواصل مع المجتمع الدولي، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والجهات الأخرى المتعددة الأطراف، والالتزام بالإصلاحات المؤسساتية والاقتصادية التي تمّت مناقشتها منذ فترة طويلة ولكن لم يتم الاتفاق عليها أو تنفيذها على الإطلاق. ربما تضاءلت النوايا الحسنة الدولية تجاه لبنان لكنها لم تتلاش بالكامل. وبفضل دعم المجتمع الدولي فقط، يمكن للبنان أن يأمل في التوَصّل الى اتفاق عادل مع دائنيه، وهو ما يضمن للبلاد درجة من الاستقرار وإمكانية إحياء النمو السريع الشامل والمستدام في المستقبل البعيد.
تتضمّن الخطوط العريضة للإصلاحات المطلوبة ما يلي: تنفيذ التدابير المتعلّقة بضبط الإيرادات والنفقات كما هو وارد في بيان مجلس الوزراء بهدف تقليص العجز المالي، معالجة أزمة الكهرباء، إصلاح نظام التقاعد، إعادة هيكلة الدين العام، تعزيز الحوكمة ومؤسسات القطاع العام وكبح الفساد، إعادة هيكلة القطاع المالي. وبمجرد تأمين التمويل الكافي من المجتمع الدولي وبعد تعزيز الاحتياطيات الرسمية يجب توحيد سعرَي الصرف والانتقال إلى نظام سعر صرف مَرن.
- ما هي التقديرات للدعم المالي الخارجي المطلوب للخروج من الأزمة؟
يقول إيراديان إنه نظراً لخطورة الوضع المالي، فإن برنامج الإصلاح سيحتاج إلى دعم مالي خارجي مقدّر بحوالى 28 مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة، أي حوالى 5.5 مليارات دولار سنوياً. هناك حاجة اساسية إلى دعم كبير من قبل الدائنين والمجتمع الدولي لوضع الدين العام أخيراً على مسار مُستدام وسدّ فجوة التمويل. سيكون من الصعب للغاية اتخاذ أي تدابير إضافية محلية في ظل الظروف الحالية. لن يكون من الممكن إجراء المزيد من التخفيضات في الإنفاق أو زيادة الضرائب من دون خنق النشاط الاقتصادي أو إثارة اضطرابات اجتماعية وسياسية، الأمر الذي سيبطل فوائد الإصلاح بالكامل.