2019 أقفلت على تعقيدات أزماتُها مفتوحة
على عكس الجملة الشهيرة التي تُختتم بها الأعوام “تنعاد عليكم”، تضجّ صفحات وسائل التواصل الإجتماعي بـ “ما تنعاد عليكم”، لما حملته هذ السنة من مآسٍ، لن تبقى فقط أسيرة الذاكرة، إنما ستأسر الأعوام المقبلة بالكثير من المشاكل. الأزمة النقدية التي اختتمت بها 2019 أيامها، قد تكون السمة الأبرز والمسبّب المباشر وغير المباشر لكل الأزمات الواقعة واللاحقة.
بعيداً من تكرار أسباب الأزمة، والإكتفاء بضرورة الإشارة إلى تورّط المصارف بتمويل دولة فاشلة بحوالى 110 مليارات دولار سواء بشكل مباشر (30 مليار دولار) أو عبر ودائع في مصرف لبنان (70 الى 80 ملياراً)، فإنه يؤخذ على القيّمين على السياسة النقدية، من “مصرف لبنان”، “جمعية المصارف” و”وزارة المال” بصفتها الوصية على المركزي، غياب الشفافية وعدم اتخاذ خطوات واضحة وصريحة للمعالجة بطريقة عادلة، فحمّلت من لا يملك إلا راتبه في المصرف نفس مسؤولية أصحاب الودائع الكبيرة الذين استفادوا طيلة أعوام.
العمولة ونسبة إنخفاض الليرة
هذا الواقع دفع إلى ظهور ما يشبه السماسرة، يُخلّصون الشيكات والأموال العالقة من حواسيب المصارف مقابل عمولة تتحدد بحسب الباحث في هارفرد دان قزي “بنفس نسبة إنخفاض قيمة العملة، وعليه فإن هذه العمولة تبلغ اليوم 30 في المئة، أما في حال إنخفاض قيمة عملتنا إلى 3 آلاف ليرة مقابل الدولار، فإن هذه العمولة ترتفع إلى 50 في المئة”.
هناك نوعان من “سماسرة” النقود ظهرا أخيراً:
الأول، يشتري الودائع الكبيرة بالدولار العالقة في المصارف. وهذه العملية بحسب قزي مثلّثة الفوائد. فمثلاً “من يملك وديعة بمليون “لولار” (monopoly money) عالقة، مستعد لأن يحصل مقابلها اليوم على 700 ألف دولار، بدلاً من بقائها محتجزة في المصرف أو خسارتها أكثر من 50 في المئة في المستقبل نتيجة الـ Hair cut الإجباري. أما الشاري من ناحيته، فمن مصلحته شراء المليون دولار بحسم 30 في المئة لتسديد ديون عالقة في المصرف أو خارجه. أما المصرف فهو بدوره يعتبر رابحاً نتيجة حصوله على ديونه”.
والثاني، يتعامل على مستوى أصغر وبأرقام أقل. كأن يأخذ السمسار “الشيكات” التي يعجز أصحابها عن وضعها في المصرف بسبب عدم امتلاكهم حسابات جارية. وهنا وعلى عكس المبالغ الكبيرة فإن بائع الشيك يكون خاسراً نتيجة اضطراره للأموال حتى ولو أقل بـ 30 في المئة، فيما أغلب الظن أن السمسار يضع الشيكات بحسابه المصرفي لتسديد ديون وقروض، أو لقبضها نقداً بعد استحقاقها، نتيجة تواطئه مع نافذين أو مدراء في القطاع.
ما نشهده اليوم غير مسبوق، “فنحن نعيش التاريخ، وهذه التجربة ستُدرّس في الجامعات، وستُكتب عنها عشرات الأبحاث والمجلّدات. إذ انه قد يصدف في نظام ما أن تكون هناك مؤسسة مصرفية أو مالية تمارس ما يعرف بـ Ponzi Pyramid (نظام بيع هرمي، يعد بالربح الكبير، ويمول هذا الربح من تدفق أموال جديدة وهكذا دواليك) إنما أن يكون قطاع بـ”أمه وأبيه” يعمل وفقاً لهذه المنظومة فهذا غير مسبوق”.
إيجاد المواطنين الحلول المنطقية الذاتية من خارج الإطار القانوني لإدارة الأزمة النقدية، يقابله استفادة المصارف، ومن يدور في فلكها من رجال أعمال وسياسيين من هذه الفوضى المنظمة. وما رفضهم تشريع “Capital control ” و”Hair cut” سوى دليل إضافي على تواطؤ غير مسؤول وعادل. فبدلاً من تنفيذ إقتطاعات تصاعدية من الودائع الكبيرة وإعفاء صغار المودعين من تحمّل مسؤولية الأزمة، إتجهت المصارف إلى تقنين الدولار مع احتمال مرتفع بقطعه مطلع العام القادم، وبهذه الطريقة تكون قد نفّذت “Hair cut” بنسبة توازي إنخفاض قيمة صرف الليرة اللبنانية على 70 في المئة من المتعاملين بالنقد الأجنبي في القطاع المصرفي (تبلغ نسبة دولرة الودائع والقروض حوالى 70 في المئة). أما عدم تشريع “الكابيتال كونترول”، فهو لاستمرار الاستنسابية في التعامل مع المودعين وهروب من المسؤولية وتحمّل اللائمة القانونية.
“زومبي بنك”
باستثناء قلّة قليلة جداً من المصارف المعرّضة لخطر الإفلاس، فإن أكثريتها ستتابع عملها بشكل طبيعي، حتى لو فقدت كل سيولتها بالعملة الأجنبية. وهذا النموذج يعرف بحسب قزي بـ “Zomby Bank وقد شهدناه في اليابان في ثمانينات القرن الماضي”. من هنا فإن “القبول العام” باختبار الضغط الذي مارسته المصارف من خلال تخفيض سقف السحوبات من 1000 دولار أسبوعياً إلى 500 من ثم إلى 300 و200، من المتوقع أن لا يلاقي اعتراضاً يذكر على موضوع الإستمرار في هذا الإجراء، أو حتى تحويل الدفعات من دولار إلى الليرة في المستقبل القريب. وبهذا تكون المصارف قد نفذت Hair Cut أعمى وغير عادل.
قبل تشكيل الحكومة، وإجراء الإنتخابات النيابية والبدء بالمشاريع الإصلاحية… على المسؤولين صب جهودهم على تحييد أصحاب الرواتب والودائع الصغيرة والمدخرات من دائرة الخطر، عبر تشريع Hair Cut عادل ومنطقي وملاحقة مهربي الأموال، سواء كانوا أصحاب مصارف أم سياسيين، وإعادة ضخ المبالغ المقتطعة والمرتجعة بالإقتصاد لإدارة العجلة الإقتصادية وخلق فرص العمل.
“الزومبي بنك”… “ماشي”
«الزومبي بنك» هو مؤسسة مالية ذات قيمة اقتصادية أقل من الصفر ولكنها لا تزال تعمل لأن قدرتها على سداد ديونها يتم دعمها من خلال دعم ائتماني حكومي ضمني أو صريح. وقد استخدم هذا المصطلح للمرة الاولى من قبل إدوارد كين في عام 1987 لشرح مخاطر التسامح مع عدد كبير من جمعيات الادخار والقروض المتعثرة، وتطبيقها على الأزمة اليابانية الناشئة في العام 1993. يمكن أن يستمر الزومبي بنك في العمل بل وحتى في النمو طالما بقي الدائنون واثقين من قدرة الحكومة ذات الصلة على استخراج الأموال اللازمة لدعم وعودها من دافعي الضرائب الحاليين أو المستقبليين. ولكن عندما تبدو هذه القدرة مشكوكاً فيها، تواجه مؤسسات الزومبي تهافتاً على سحب الودائع من قبل المودعين غير المؤمّن عليها وطلبات تغطية الهامش من الأطراف المقابلة في معاملات المشتقات.