يعيش لبنان اليوم حالة نقديّة – إقتصاديّة ودستوريّة استثنائيّة نتجت عن السياسات التي اتبعها مصرف لبنان بغطاء من السلطة السياسيّة – الأمنيّة التي كانت في زمن الاحتلال السوري، وتابعها الوكيل الذي تحوّل إلى أصيل بعد 14 شباط 2005. وتعتبر هذه السلطة بالذات شريكة معه في السياسات النقديّة طيلة هذه العقود الثلاثة التي خلت. وبالتالي لا يمكن تجزئة المسؤوليّة وتحميلها لأشخاص منفردين، بل تتحمّلها السلطة الحاكمة بأكملها، تلك التي وافقت وغطّت سياسات الدولة النقديّة والطريقة الاستنسابيّة في تطبيق الدستور والقوانين. في قراءة بسيطة لقانون النقد والتسليف، وفي المادة رقم 88 والتي تنصّ على الحقّ “للمصرف أن يمنح الخزينة، بطلب من وزير المالية، تسهيلات صندوق مشروطة، يتبيّن أنّه تمّ تجاوزها حيث لم يلتزم المصرف بالقيمة المذكورة. كذلك في المادة التي تلي يتبيّن أنّه للحكومة الحقّ في الاستلاف” في حال تبيّن أنّ الموجودات النقديّة غير كافية لمواجهة التزامات الدولة الفورية”. أمّا نصّ المادة 90 المعنون “عدم منح قروض للقطاع العام” فصريح جدّاً، إذ ينصّ على منع التسليف “باستثناء تسهيلات الصندوق المنصوص عليها بالمادتين 88 و89. كما تنصّ المادتان 91 و 92 على منح القروض للدولة ولهيئات القطاع العام غير الدولة وذلك في “ظروف استثنائية الخطورة أو في حالات الضرورة القصوى”.
وإن دلّ ذلك على شيء فهو يؤشّر إلى حجم عمليّة التواطؤ في الالتفاف على القوانين الماليّة من قبل من هم في السلطة، ليتمكّنوا من وضع يدهم على المال العام. وبما أنّ هذا المال لم يعد متوافراً، لجأ المصرف إلى التصرّف بأموال المودعين. وفي هذه الحالة كان المواطن اللبناني المودع، المتضرّر الأكبر.
من هذا المنطلق، لن ينفع الدولة بعد اليوم اللجوء إلى عمليّات جراحيّة عاديّة لتصحيح المسار النقدي فيها. المطلوب واحد هو عمليّة استئصال لهذا الداء من خلال اللجوء إلى القوانين، وعدم استغلال الاستثناءات التي وضعها المشرّع لحالات الضرورة القصوى في الحالات العاديّة لمصلحة بعض الأشخاص أو الفئات.
من هنا، يتبيّن لنا أنّ الداء الأكبر الذي يعانيه لبنان هو عدم اللجوء إلى الكتاب، أي الدستور والقوانين. وفي حال تطبيقه يؤخذ منه ما يناسب من هم في سدّة الحكم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أين اللامركزيّة ومجلس الشيوخ الذي نصّ عليهما اتفاق الطائف؟ ولماذا إثارة موضوع إلغاء الطائفيّة السياسيّة المنصوص عليها في الاتفاق عينه فقط؟ ما نحن بحاجة إليه في هذه المرحلة ليس إسقاط نظام؛ بمعنى النسف والتدمير لإعادة البناء. المطلوب تطبيق حقيقيّ وصادق وشفّاف للقوانين اللبنانيّة، للإنتقال بعدها إلى العمل على سدّ الثغرات الدستوريّة والقانونيّة، كتلك التي لا تحدّد لرئيس الحكومة مدّة زمنيّة لتشكيل حكومته، أو لا تحدّد أيضاً لرئيس الجمهوريّة مدّة لتعيين الاستشارات الملزمة، والتي لا تحدّد لمجلس النوّاب مدّة زمنيّة لانتخاب رئيس للجمهوريّة.
هذا هو السبيل الوحيد لانتشال الدولة اللبنانيّة من مستنقع الفساد في تطبيق القوانين والدستور للإنتقال إلى مرحلة التحديث، بغية الوصول إلى التجديد الذي يصرخ به الثوّار في الساحات. فهل ستجرؤ الطّغمة الحاكمة على التغيير الذي قد يطيح بها؟