من عجائب العصر في حقبة «داعش» والحرب على هذا التنظيم الإرهابي، أن تصرّ المرشحة لرئاسة الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، على أن بعض «مساجد ومدارس التطرُّف» ما زال يتغذّى بتمويل من خليجيين، يتيح تفشي فيروس «داعش» وإرهابه… فيما تتناسى مسؤولية واشنطن عن صنع وحوش في معتقلات العراق وأفغانستان كانوا صيداً ثميناً، ليطلق أبو بكر البغدادي حربه على المسلمين كما على غيرهم، وعلى العرب مثلما يستهدف الأوروبيين والأميركيين.
وإن كان مبرراً وضع علامة استفهام كبرى حول عدم استهداف «داعش» الإيرانيين أو الإسرائيليين، فالأهم أن ديبلوماسية «القوة الناعمة» التي اعتمدها باراك أوباما ساهمت كذلك في زعزعة المنطقة العربية، وتشجيع «داعش» على محو حدود العراق وسورية، وضرب أوروبا والولايات المتحدة بالإرهاب العابر للقارات.
كانت هيلاري وربما تبقى الأفضل لتخلُف أوباما على رأس قوة كانت عظمى وتحوّلت مُشاهِداً يتفرّج على أكبر مجزرة في العصر تُرتكب في حق الشعب السوري، وعلى مآسي العرب السُّنّة في العراق، في عهد حلفاء إيران وحرسها «الثوري». هيلاري الأفضل ما دام الخيار بينها وبين دونالد ترامب الذي اقتنص فرصة اعتداء أورلاندو، بوصفه دليلاً على «رجاحة» عقله الذي اجترح صيغة إغلاق حدود أميركا في وجه المسلمين، تفادياً لـ «فيروس» الإرهاب الذي يُقلِق كلينتون، ويشمئز هو منه.
والمسألة الأهم بعيداً من الانحياز إلى أهون الشرّين في الانتخابات الأميركية، أن هيلاري كأي مرشح للرئاسة، لن تجرؤ على الاعتراف بدور واشنطن في التغاضي عن تجديد شباب الإرهاب والإرهابيين منذ ما قبل سيطرة «داعش» على الموصل. وإذا كان مؤلماً لغالبية المسلمين العرب أن يخدم هذا التنظيم تأجيج الصراع المذهبي في المنطقة، وتسهيل أهداف الساعين إلى تكريس صورة «الإرهاب السنّي»، في مقابل «الشيعية الإيرانية المعتدلة»، فالأكيد أن أي إدارة في البيت الأبيض لن تعتذر عن تمكين إيران من ابتلاع العراق، لتبدأ هناك المقتلة الكبرى، وأسطورة «داعش» وإرهابه.
أورلاندو بعد بروكسيل وباريس، الفيروس لم يتمدد بعد إلى موسكو وطهران. هيلاري «الديموقراطية» لن تقر بأن قتل أسامة بن لادن لم يستأصل داء الإرهاب، وبأن إدارة أوباما غذّت الداء حين تركت فلاديمير بوتين يصول ويجول في سورية كأنها جزء من أملاكه، وتفرّجت على «الحرس الثوري» المندفع إلى «حماية» المقامات الشيعية هناك، وإلى المشاركة في قتل السنّة…
لن تعترف هيلاري ولا أوباما بأن ترجمة «القوة الناعمة» كانت تراخياً أمام التخريب الروسي- الإيراني لبقاع شاسعة في المنطقة العربية، بذريعة الحرب على التكفيريين وإرهابهم. وقد تأنف الوزيرة السابقة من مشاهد القتل الجماعي اليومي في العراق الذي اغتال دولته ومؤسساتها بول بريمر، قبل أن يمد «الحرس الثوري» أصابعه و «رعايته» العملية السياسية التي ما زالت أم النكبات للعراقيين… وقبل أن يُتوَّج قاسم سليماني مفوّضاً على الأرض في بلاد الرافدين، بمواكبة أميركية في الفضاء.
لا يلغي كل ذلك حقائق معضلة التطرُّف في المنطقة، ولجوء مجانينه إلى ادعاء حقٍّ في تطبيق الشريعة وفق أهوائهم، والاقتصاص من البشر، كل البشر الآخرين لأنهم مختلفون. كل ذلك بديهي، لكنّ ما هو غير مبرر بل ظالم، تشكيك مبطّن في أميركا وبعض أوروبا بجهود دول عربية في مكافحة فيروس الإرهاب، ونسخته الجديدة. التشكيك هو ذاته الذي يغذّي التيارات اليمينية الشعبوية الكارهة كلَّ لاجئ مسلم، هارب من الاضطهاد والاستبداد وحصار الجوع.
… مزيد من القصاص، قتل وتجويع وتشريد، وفيروس يمهّد أرضاً خصبة لنازية جديدة، على ضفة البحر المتوسط. وبين فكّي النازيين و «الدواعش»، لن نشهد على الأرجح إدارة أميركية أكثر إنصافاً للعرب، وأكثر عقلانية في معالجة مصدر «الفيروس». ما تفعله واشنطن حتى الآن، أنها لا تقبل سوى الرضا عن كل صفعة توجِّهها إليهم، وتتذمّر إذا شكوا من طعنهم في الظهر.
ما تفعله واشنطن يزرع بذور الحقد، والحقد شريان للإرهاب، لا يفرّق بين شرق وغرب، ولا يستثني المسلمين من رياح الجنون التي تمطر فظائع تتلطى بمظالم.
وسيسجّل التاريخ أن إدارة أوباما هي التي مكّنت أمّ الإرهاب إسرائيل، من الفوز للمرة الأولى برئاسة لجنة في الأمم المتحدة، مهمتها الشؤون القانونية!… الجنون والإرهاب صنوان، لا غنى لكل منهما عن الآخر، لحماية «الفيروس».