عندما كتب شارل مالك عن الموارنة، اختار عنواناً لمقالته «الكثير المطلوب»، مستشهداً بمقولة السيد المسيح: «إن من أعطي كثيرا يطلب منه الكثير». وبين الأمس واليوم يمكن إسقاط الكثير وقلب المعادلة الى «ماذا يطلب الموارنة.. أو بالأحرى مسيحيو لبنان».
في آخر الملفات الملتهبة ينضح المزاج المسيحي، بما فيه من مشاعر «الكبت والتهميش وإفراغ الدور والوجود من مضمونهما». هذه ليست شعارات كما يحلو للبعض الجزم، والأمثلة باتت كثيرة لا تبدأ بتعيين حاجب في إدارة «غير سيادية» ولا تنتهي بشغور رئاسي معلق على حافة توافق الأمم جمعاء.
في الدعوة التي وجهها الوزير السابق زياد بارود الى وزير الداخلية نهاد المشنوق الى احتفال تدشين القصر البلدي في جعيتا، تمنى بارود على المشنوق الحضور قائلا: «أرجو أن يكون جوابكم بالإيجاب، فالناس تحبكم كما كلنا، وإطلالتكم في كسروان حلوة ومحببة». ربما هذا كان الشعور الصادق لبارود ولكل أهالي جعيتا. ولكن بعد الاحتفال والكلمات التي ألقيت فيه، انقلب المشهد لدى الجمهور الذي واكب الحدث فبدا أن المشنوق لم يكن موفقا في «مواكبة خفقان قلب ذاك الجبل ولا في الاستماع الى نبضاته المعبرة عن هواجسه وتطلعاته» كما تمنى في ختام كلمته. في الواقع، النقمة لم تكن ضد المشنوق بقدر ما كان العتب ضد بطريرك الموارنة بشارة الراعي الذي جاءت كلمته في الاحتفال عينه بمثابة «صك براءة» لكل ما قاله المشنوق والذي تصفه أوساط مسيحية متابعة بأنه «استعلاء وتطويع للمسيحيين». حتى أن أوساطا كنسية أكدت أن البطريرك لم يصغ جيدا لكل مفاصل كلمة المشنوق.
في كلمته التي استهلها بـ «غزل» بطرس الصخرة والصخرة الكنيسة التي لن تقوى عليها أبواب الجحيم، أورد المشنوق ما اعتبره «فزاعة التوطين وفزاعة الوجود المسيحي في الدولة وخرافة الرئيس الأقوى في طائفته».
الأوساط الكنسية الرفيعة تعتبر أن «كلام المشنوق جاء بمثابة التحدي المتعمّد في عقر دار كسروان، حيث وجه اللوم الى المسيحيين في كل شيء ووصفهم في ما يشبه بأنهم مرضى الوهم». وإذ تؤكد أن البطريرك «لم يسمع كلمة الوزير» والدليل أن كلمة غبطته طرحت مبادئ مغايرة تماما لأن كلمة المشنوق جاءت على شكل «سموم» لا غير، تتوقف عند «الصحيح» الذي قاله وزير الداخلية في كلمته ومفاده أنه ينتمي الى جيل أخطأ بحق لبنان، حيث ركب بعضهم موجة «الثورة الفلسطينية». وتضيف: «أصاب عندما قال ما معناه إنه عام 1975 أصبنا بالإحباط وأخطأنا عندما استعملنا الفلسطينيين كجيش ضد اللبنانيين».
وتستغرب الأوساط الكنسية «الخلفية لطرح الوزير في كلمته موضوعات لا صلة لها بمناسبة تدشين قصر بلدي، مثل الحكم على ميشال سماحة والقول بأن القضاء أصاب. فهل هذا يعني أنه كان مخطئا قبلا وصحح تحت الضغط أم ان العكس صحيح؟».
ولعل أكثر ما تتوقف عنده الأوساط الكنسية الرفيعة هو اتهام المسيحيين بأنهم «مرضى الوهم» فتقول: «اذا كان لا يؤمن بهذا الموضوع وقاله لضرورات إعلامية فهذه مصيبة، واذا كان يؤمن به فالمصيبة أكبر».
المقاربة الكنسية للمزاج المسيحي تنطلق من «تفصيل جعيتا» لتلج «محاولات التهميش المتواصلة للمسيحيين منذ الوجود السوري في لبنان والذي استكملته ما تسمى بالحريرية السياسية، مرورا بالحلف الرباعي ووصولا الى القول للمسيحيين اليوم بأن: اتفقوا ونحن معكم، وعندما اتفقوا قامت القيامة والجميع نكرهم».
أما المقاربة المسيحية العلمانية فتصف مزاج المسيحيين بـ «المعكّر» لا بل «الشاعر بالقرف». فإضافة الى ملاحظاتها حول «موقعة جعيتا» والتي «لا تغفر» للبطريرك التساهل فيها، تلفت الى أنه «قيل عن زمن المارونية السياسية بأنها مزرعة، ولكن ما تحولت اليه الأمور هو مزارع. للمرة الأولى نشهد هذا الدمج المقيت بين الطائفة والدولة على قاعدة أنه لا يحق لأحد الاقتراب من حصة الآخر. وأما المسيحيون فدائماً هم فشة الخلق وكبش الفداء. وتتبدى قضية جهاز أمن الدولة خير دليل على ذلك كونها آخر فصول عقاب المسيحيين على تمسكهم بدورهم ووجودهم وحرصهم على تثبيت الشراكة الفعلية فعلا وليس شعاراً».
يرى هؤلاء أن «الشريك الأصدق مع المسيحيين حتى اليوم هو حزب الله. أقله يجاهر علناً بمشاريعه ومواقفه وينأى بنفسه عن الدخول في الزواريب، بصرف النظر عن النقاش الذي يحمل الكثير في سلاحه وأيديولوجيته ومشاركته العسكرية خارج لبنان».
تعلق شخصية مسيحية مخضرمة على الحالة المسيحية وانتظاراتها بالقول: «لو لم يطفح الكيل عندهم لما اتفق المسيحيون مع بعضهم بعضاً. وما بعد الطفح لائحة التوقعات طويلة».