المواقف التي دأب العماد ميشال عون على اتخاذها أخيراً والتي أكّد فيها انتسابه إلى محور المقاومة ودفاعه عن قتال «حزب الله» في سوريا، إلى بيان تكتل «التغيير والإصلاح» الذي انضمّ فيه إلى الحملة المُبرمجة على قوى ١٤ آذار، تؤشّر إلى رهانه على نتائج المفاوضات النووية، لا على نتائج حواره مع «القوات اللبنانية».
عندما دخل العماد عون في حوار مع الرئيس سعد الحريري حرصَ على تحييد نفسه عن أيّ اشتباك بين الحريري و«حزب الله»، بل ترك الحزب وحيداً في عزّ الاحتدام والحماوة السياسية بين الطرفين، وذلك في الوقت الذي كان فيه الحزب أحوَج ما يكون إلى عون تجنّباً للفتنة المذهبية.
وفي تلك المرحلة بالذات أعطى عون حديثاً للموقع الإلكتروني لتيّاره، كشف فيه عن اللقاء الذي جمعه والحريري، وأعلن انه الوحيد القادر على تأدية دور الجسر بين الحزب و«المستقبل»، واستطراداً بين السنّة والشيعة.
وفي واقعة أخرى من تلك المرحلة نفسها حرص عون على التقليل من أهمية المحضر الذي نشرته «الجمهورية» عن لقائه مع المؤسسات المارونية من منطلق أنّ المجالس بالأمانات، وأنّ كل شخص يسمح لنفسه في جلسة خاصة بالتعبير عن هواجسه وأفكاره ومكنوناته على طريقته، وهو كان قد عرضَ في هذه الجلسة لرؤيته السياسية من الصراع السنّي-الشيعي إلى الأزمة السورية وما بينهما الوضع الداخلي، فظهر أنّ كلامه المعلن عن تموضعه الجديد في غير محلّه، وأنه في العمق ما زال مؤمناً بالتحالف مع «حزب الله» وامتداده الإقليمي والمذهبي.
وعلى رغم دخول العلاقة بين عون والحريري في هدنة سياسية، إلّا أنّ «الجنرال» لم يبدّل في تموضعه الوطني، فيما دعاه رئيس «المستقبل» إلى فتح حوار مع مسيحيي ١٤ آذار، وتحديداً الدكتور سمير جعجع، الأمر الذي بقي معلقاً إلى حين انطلاق الحوار بين الحزب و»المستقبل»، فتحرّك الحوار بين «القوات» و»التيار الحر».
وفي الوقت الذي أبدَت فيه شخصيات سياسية وإعلامية خشيتها من محاولة العماد عون توظيف فشل الحوار لاستهداف الدكتور جعجع على غرار المشروع الأرثوذكسي، كان رئيس «القوات» حاسماً بتأكيد مواصلته الحوار والتعويل عليه من أجل إقفال الصفحة الماضية، والتشديد على أنّ التقارب السياسي-الرئاسي مع عون شرطه اقترابه في السياسة من مبادئ «القوات» وثوابت ١٤ آذار. فالهدنة السياسية والإعلامية مع الحريري وجعجع لا تكفي لانتخابه رئيساً.
ولكنّ المواقف الأخيرة لعون لا يبدو أنها تعير أيّ أهمية للحوار مع «القوات»، وإلّا كيف يمكن تفسير مواقفه الإعلامية وبيان التكتل أخيراً الذي دعا إلى «إسكات الأصوات النشاز»، وأضاف: «عبثاً ينشئون أمانات عامة ومجالس وطنية، ويا لها من تسمية غير موفّقة بالصدفة أو بالقصد، ويأتي هذا مع تجدّد الخطاب الممِل لهذا الفريق.
تحيي العظام وهي رميم…!! إذهبوا إلى الانفتاح، فتنقذوا نفوسكم من الانغلاق والتبعثر… هل من عقيدة جديدة واحدة توحّدكم أو تحرّككم، أم أنّكم تستدركون وتستلحقون الإستحقاقات المقبلة على البلد…! ما من أحد يحدّد خسائره بمجالس وطنيّة على أنقاض أمانات عامة، وتعب الناس، ويأسهم وغربتهم عنه».
فهذا الكلام يعني بوضوح أنّ العماد عون لا يراهن على حواره مع «القوات»، ولا يُراكم في هذا الحوار، لأنّ من يريد الوصول إلى مساحة مشتركة لا يطلق مواقف من هذا النوع، ولا يَنضمّ إلى حملة «حزب الله» على ١٤ آذار.
وبالتالي، لا يمكن تفسير ما تقدّم إلّا في سياق رهانه على توقيع الاتفاق النووي وإطلاق يد إيران في المنطقة ومن ضمنها لبنان في طبيعة الحال، فيصِل إلى بعبدا من دون الحاجة لـ«المستقبل» و«القوات» و«الكتائب» وغيرهم، ما يذكّر أيضاً بالمناخات التي عَمّمها مقرّبون من عون بأنّ على ١٤ آذار التقاط فرصة انتخاب عون عن طريقها، وإلّا سيصِل رغماً عنها عن طريق طهران. فلا شيء يبرّر التصاقه بالحزب في هذه اللحظة إلّا الرهان على تطورات إقليمية.
وإذا كانت التطورات ستظهر قريباً أنّ هذه القراءة النووية وهمية، ليس فقط لأنّ الاتفاق النهائي مُستبعد، بل لأنّ طهران لن تحصل على تفويض مطلق في لبنان إلّا بالقوة، فإنّ الأمر المستبعد اليوم، وبالتالي الخاسر الأكبر سيكون عون نفسه، لأنه عندما سيحين الوقت لتحريك الملف الرئاسي في لبنان سيتمّ استبعاده لمصلحة البحث عن الشخصية الوسطية التي باستطاعتها الحفاظ على الستاتيكو القائم والناتج عن هندسة دقيقة بين الرياض وطهران، وبين السنّة والشيعة، وبين «المستقبل» و»حزب الله».
وسيكتب التاريخ يوماً أن ّجعجع لم يوفّر سبيلاً من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي، من استعداده للتراجع عن ترشيحه إلى البحث عن شخصية وسطية وصولاً إلى فتح حوار مع عون لن يستثني منه الرئاسة.
ولكنّ العماد عون الذي أخطأ في تحالفه مع «حزب الله» في العام ٢٠٠٦، الأمر الذي حال دون وصوله إلى الرئاسة الأولى في العام ٢٠٠٨، ما زال مصرّاً على تكرار الخطأ نفسه، لأنّ الزمن الذي يستطيع فيه محور المقاومة إيصال رئيس للجمهورية في لبنان انتهى إلى غير رجعة.
وكان بإمكان عون بكلّ بساطة أن يكتفي بطمأنة «حزب الله» بأنه لن يكون الرئيس الذي ينقلب أو يتآمر عليه، ولكنه سيكون رئيساً على مسافة واحدة من الجميع، وأنّ أولويته ستنحصر بالحفاظ على الاستقرار في الداخل من خلال الاتّكاء على التقاطع السعودي-الإيراني بتحييد لبنان، والشروع في إطلاق ورشة داخلية لمكافحة الفساد وإعادة الاعتبار للمواطن اللبناني. ولكنّ عون بَدّد بنفسه مجدداً فرصة أن يكون رئيساً…