لا تفارق ذاكرة الذين يستعيدون اليوم بالذات مرور ربع قرن على إقرار اتفاق الطائف ان ولادته جاءت عقب انهيار جدار برلين وانبلاج فجر عالمي آنذاك اسقط الستار الحديدي وألحق أوروبا الشرقية بالدول الحرة الديموقراطية الغربية. أفاد لبنان المقسّم والمدمّر بحرب الـ١٥ عاما من نهاية الحرب الباردة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق فقام اتفاق الطائف مبشرا بنهاية حربه.
نسارع الى الاستدراك ان ذاكرتنا لم تنس ايضا مقولة ان الدساتير والمواثيق في لبنان لا تعمر كثيراً بمعنى ان لبنان محكوم كل عقدين على الأكثر بحرب! لا دستور ١٩٤٣ منع الحروب والاجتياحات والوصايات وحتى الفراغات الرئاسية، ولا فعل كذلك اتفاق الطائف وميثاقه، ولا حاجة الى استغراق في استحضار التاريخ. ولكن ماذا تراه يعني ذلك ان استسلم اللبنانيون لهذه اللعنة؟ وهل ما نقف أمامه اليوم هو ذروة الاستسلام؟
وسط القتامة الصاعدة في المشهد اللبناني، مع “مقتلة” ديموقراطية تعطل النظام وتمنع تجديد الحد الادنى السياسي بتمديد متجدد لمجلس النواب ينذر باستعادة تجربة التمديدات الآلية خلال حرب الـ١٥ عاما، وتمدد ازمة الفراغ الرئاسي الى لا افق، وتهديد الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي، لن يكون من المغالاة القول ان اي جنوح مجنون الى تقويض البقية الباقية من الطائف ولو هيكلاً يعني القفز النهائي في الهوة. تأخرت محاسبة الطبقات السياسية المتعاقبة على تنفيذ الطائف وتطويره الى حدود خيالية وربما فاتت الفرصة تماما الا للذين لا يزالون يؤمنون بأن التاريخ يمكنه ان يعدل عقاباً وإحقاقاً. ولكن الامر لم يعد هنا الآن، وذكرى مرور ربع قرن على الطائف ما كان لها ان تكتسب بعدا مدوّيا الآن لولا الخطر المحدق بالميثاق والدولة والشعب وربما ايضا بالارض. ولعل الأخطر على جميع مقومات الاستقرار وما تبقى منه هو داخلي اكثر من كونه خارجيا.
تبعا لذلك سيكون أمراً حسناً ان نناقش التجربة بحلوها ومرّها ولكن من تراه سيحاسب من؟ وأي جدوى ما لم تكن النتيجة انقلابا ديموقراطيا عاصفا ينقل البلاد من ضفة الى اخرى؟
تبعا لهذا الواقع القاهر تبقى حقيقة لا نعتقد ان احدا يجب ان تساوره أوهام حيالها وهي ان ما تبقى من هيكل الطائف شكلاً ومضموناً بات على ضعفه، ليس ورقة التين التي تستر عري النظام اللبناني فقط، وإنما ايضا حبل الأمان الاخير لإعادة تسلق الشجرة متى مرت العاصفة، ان مرت. ولا يعني اللبنانيين الذين قمعوا انفسهم كما قمعتهم اجيال السياسيين المتعاقبين مع ارتباطاتهم الخارجية عن التغيير الجذري السلمي اي عنتريات وأوهام اليوم في امكان انقضاض على فتات دولة فيما تصدح أناشيد الصمود امام الارهاب وتذوي الدولة الهائمة بلا رأس.