من على منبر الأمم المتحدة، لم يكن تدشين دورة الجمعية العامة فأل سلام للعالم، بل وعود بمزيد من الحروب… من شبه الجزيرة الكورية إلى الشرق الأوسط وضفاف الخليج، حيث الصفقة النووية «الفاسدة» مع إيران لا تترك خياراً لرئيس أقوى دولة في العالم سوى التلويح، بنفض اليد منها. لذلك ثمن باهظ، كما لتدمير كوريا الشمالية من أجل إعادة «رجل الصاروخ» كيم جونغ أون إلى الصواب.
«الديكتاتورية الفاسدة» في إيران والتي تثير قلق الجيران ولا تحيّر ترامب بمقدار ما يزعجه دفاع الأوروبيين عن ثمرة المفاوضات بين طهران والدول الست، ما زالت «تصدّر الدم والفوضى» كما قال سيد البيت الأبيض، وهو مدرك لمن يستورد. يحدد العلّة ولا يجد دواء أفضل من إبقاء إيران ونفوذها تحت الضغط… ولكن هل ذاك يكفي؟ وهل يكفي لوقف تهديد «الحرس الثوري» بردّ «مؤلم» للأميركي؟
أثلج ترامب صدر الاحتلال الإسرائيلي، حين أسهب في تشريح مفاصل الخطر الإيراني وتهديداته، ولم يخصص سطراً في خطابه أمام الجمعية العامة لذكر مبادرته «السرية» الصامتة لإطلاق مفاوضات بين الدولة العبرية والفلسطينيين. حماسته المدهشة عادة في الدفاع عن تفاؤله بحل ما زال مجهولاً لا يلتزم بدولتين، انقلبت صمتاً أمام قادة العالم، فيما أطلق قنبلة صوتية لتوطين اللاجئين… وهؤلاء قد يكون بينهم النازحون من مقصلة سورية وجحيمها، إلى دول الجوار التي تعاني استنزافاً مع شح الموارد المالية، وقد يكون بينهم المهاجرون من كوبا والمكسيك إلى الولايات المتحدة، والهاربون من الميليشيات الليبية إلى سواحل الجنوب الأوروبي.
زعيم الليكود المتطرف بنيامين نتانياهو الذي يشكو «الستارة الإيرانية من طهران إلى طرطوس، ومن بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط»، اطمأن إلى أن بإمكانه النوم على حرير «المبادرة» الأميركية المجهولة في الشرق الأوسط لإقناع الفلسطينيين بالعودة مجدداً إلى مفاوضات بلا نهاية، ريثما يكتمل قضم الضفة الغربية وتهويد القدس… لم يخطئ ترامب في التشدد مع إيران، لكنه فشل في تشخيص العلاج، وسجّل نجاحاً كاملاً في منح إسرائيل ضوءاً أخضر لضربات عسكرية موضعية، تستهدف مواقع «الحرس الثوري» والميليشيات الإيرانية وقدرات «حزب الله» في سورية ولبنان.
وهل مجرد مصادفة إنشاء أول قاعدة عسكرية أميركية- إسرائيلية في الدولة العبرية؟ هل الوعيد الإسرائيلي للبنان بإعادته إلى العصر الحجري، مجرد تهويل للجم طموحات «حزب الله»، ومن ورائه إيران؟
لم يكن منبر الأمم المتحدة في أول أيام الجمعية العامة، منبر سلام للعالم الذي يعاني انعدام الأمن وضربات الإرهاب، والصراعات الطائفية والعرقية، وحروباً ما زالت تنتظر التفاهم الضائع بين البيت الأبيض والكرملين. حتى تطلع ترامب إلى حل سياسي في سورية، يبقى مبهماً فيما موسكو بقبضتها العسكرية تصول وتجول في البلد المنكوب بذبح ثورته وتشريد شعبه، وقتل نصف مليون إنسان.
ولأن فصول المآسي مستمرة مع نكبات ليبيا بميليشياتها واليمن بحوثييه، وسورية بدمارها الشامل، ومناطق النفوذ التي تشيع كابوس التقسيم، واضح أن الرهان عسير على لقاءات القادة، في كواليس الجمعية العامة، لاجتراح «معجزات» حلول تأبى أن تأتي… والأكيد أن صراعات مريرة كما في العراق، لن تطوى بمجرد سحق «داعش» وإرهابه. ألم يهدد قاسم سليماني أكراد العراق بالامتناع عن لجم «الحشد الشعبي» إذا بادر بهجوم على مناطقهم؟ «قنبلة» كركوك باتت في مرجل إيراني، وقد يكون الصراع عليها أكثر كلفة من دحر «داعش» و «ترحيل» أبو بكر البغدادي.
والسؤال هو هل يستمع الأكراد إلى النصيحة السعودية بالامتناع عن إجراء الاستفتاء الذي وضع مصير كركوك على عتبة حرب؟
يتوعد ترامب إيران، تتمادى وحلفاؤها في أطماعها في الخليج واليمن والعراق وسورية ولبنان… القيصر الروسي يمسك بأوراق «اللعبة»، لكن أحداً لا يتكهن بقدرته على إعادة توزيع أدوار حلفائه وأحجامهم، وبأوقات «الصفقة» الكبرى. لعل الرئيس الأميركي لا يريدها «فاسدة» أيضاً، لكن ما نراه هو تراخٍ كامل أمام اندفاعة الكرملين لرسم خريطة «النظام العالمي الجديد».
وإن باتت المنطقة على عتبة حرب أخرى في سورية أو لبنان، فالكارثة أن العرب سيدفعون وحدهم هذه المرة أيضاً، ثمن «صفقة» مناطق النفوذ الإقليمية، والصراع الإسرائيلي- الإيراني بالواسطة… على حساب دمائهم.
عالم ما بعد «الربيع العربي» أكثر انغماساً بالدم، وأكثر ميلاً إلى الجنون والقتل. عالم «الصاروخ» الكوري والقنبلة الإيرانية يخطف أي أمل بمناطق «آمنة» باتت رهينة.