اذا كان من كلمة تختصر خطاب الملك محمد السادس في الذكرى السابعة عشرة لصعوده الى العرش، فان هذه الكلمة هي الوضوح. كان العاهل المغربي، مرّة أخرى، وربّما للمرّة الالف، واضحًا كلّ الوضوح مع المغاربة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
من دون ان ينسى، كما فعل في العام الماضي، ان المملكة تواجه مشاكل وتحديات في المناطق النائية مرتبطة بالتنمية أساسًا، خصوصًا وان عليها معالجة هذه المشاكل والتصدّي لها بدل التصرّف وكأنها غير موجودة، دعا الى تنقية الحياة السياسية في البلد وتنظيفها من كلّ ما يحيط بها من مناورات ومزايدات كي تصبح حياة سياسية سليمة. ذكّر المغاربة بأنّ هناك «مرحلة سياسية جديدة» ستنطلق مع الانتخابات التشريعية المقبلة في الخريف المقبل. أوضح للأحزاب ولكل من يعنيه الامر انّه «بصفتي الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وعلى صيانة الاختيار الديموقراطي، فاني لا أشارك في أي انتخاب ولا انتمي لاي حزب، فانا ملك لجميع المغاربة مرشّحين وناخبين، كذلك الذين لا يصوتون. كما اني ملك كل الهيئات السياسية من دون تمييز او استثناء، وكما قلت سابقًا، الحزب الوحيد الذي انتمي اليه هو المغرب».
يعتبر خطاب محمّد السادس في «عيد العرش»، الذي كان الاحتفال به هذه السنة في تطوان، اقرب الى تحذير الأحزاب المغربية التي باشرت فتح كل المعارك في ما بينها، وذلك في وقت باكر، قبل أسابيع عدّة من الانتخابات، بما في ذلك الاستعانة بالملك وتحميله مسؤولية مواقف لا علاقة له بها من قريب او بعيد. الملك في المغرب ملك الجميع وعلى مسافة واحدة من كل حزب من الاحزاب.
هذا ما بات يتوجب على الأحزاب فهمه واستيعابه بعد خطاب «عيد العرش». يفترض بهذه الأحزاب تحمّل مسؤولياتها وتقديم برامج سياسية واقتصادية واضحة وذلك لتمكين المواطن من الاختيار بين هذه البرامج التي ستُحاسب عليها الأحزاب لاحقا. هذا ما سعى العاهل المغربي الى تأكيده. سعى عمليا الى وضع النقاط على الحروف حماية لحقوق المواطن المغربي. أوضح للأحزاب ان «شخص الملك يحظى بمكانة خاصة في نظامنا السياسي، وعلى جميع الفاعلين مرشحين واحزابا تفادي استخدامه في ايّ صراعات انتخابية او حزبية». أضاف: «انّنا امام مناسبة فاصلة لاعادة الامور الى نصابها، مرحلة كانت الأحزاب تجعل فيها من الانتخابات آلية للوصول الى ممارسة السلطة». اكّد ان المطلوب الانتقال الى مرحلة جديدة «تكون فيها الكلمة للمواطن الذي عليه ان يتحمّل مسؤوليته في اختيار المنتخبين ومحاسبتهم. المواطن هو الاهمّ في العملية الانتخابية وليس الأحزاب والمرشّحين». ذهب الى حد التحذير من انّه «كفى الركوب على الوطن لتصفية حسابات شخصية او لتحقيق أغراض حزبيّة ضيقة».
يبدو واضحاً ان الكيل طفح من الأحزاب وممارستها. لذلك كان لا بد من الإشارة الى انّ «محاربة الفساد يجب ألا تكون موضوع مزايدات. محاربة الفساد قضية الدولة والمجتمع».
ما يقلق في المغرب ان المملكة تتطور بسرعة مذهلة. لكن الأحزاب تبدو عاجزة عن مواكبة هذا التطور لبلد «في تقدّم مستمر من دون نفط وغاز«. هناك استثمارات اجنبية كبيرة تقوم بها شركات أوروبية واميركية وأخرى صينية وروسية. كان لا بدّ للملك محمّد السادس من تذكير الجميع بمدى الاهتمام العالمي بالطاقة الشمسية من خلال المغرب. اعطى مثلاً على ذلك مشروع «نور ـ ورزازات» الذي يعتبر من بين الاضخم في العالم، ان لم يكن الأضخم.
لم يقتصر خطاب العرش على الداخل، كان قسم منه مكرساً للسياسة الخارجية للمغرب، وهي سياسة قائمة على «ربط القول بالفعل». ينطبق هذا الربط على الموقف من الصحراء المغربية. صحيح ان المغرب استطاع هذه السنّة ردّ كلّ المحاولات الخبيثة التي استهدفت وحدته الترابية، خصوصا ان الطرح الواقعي الوحيد هو الحكم الذاتي للاقاليم الصحراوية وان كلّ ما تبقّى مجرّد مناورات تستهدف اثارة القلاقل واللااستقرار في منطقة شمال افريقيا. لكنّ الصحيح أيضا انه لا يزال على المغرب ان يكون حذراً. لذلك قال محمّد السادس: «اذا كان بعضهم حاول ان يجعل من السنة الحالية سنة الحسم، فان المغرب نجح في فعلها سنة الحزم في مجال صيانة وحدتنا الترابية.». قال انّه «من منطلق ايماننا بعدالة قضيتنا، تصدّينا بكل حزم للتصريحات المغلوطة والتصرفات اللامسؤولة التي شابت تدبير ملف الصحراء واتخذنا الاجراءات الضرورية التي تقتضيها الظروف لوضع حدّ لهذه الانزلاقات الخطيرة».
ليست لدى المغرب أي أوهام في شأن السياسة الاميركية الحالية التي تدفع أحيانا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الى اتخاذ مواقف من الصحراء لا علاقة لها بالواقع. هذا لا يمنع محمّد السادس من الحديث عن قدرة المغرب على اعتماد سياسة لا لبس فيها في شأن الصحراء بغض النظر عن مواقف اميركا وغير اميركا. يقول هنا: «سنواصل الدفاع عن حقوقنا وسنتخذ التدابير اللازمة لمواجهة أي انزلاقات لاحقة ولن نرضخ لايّ ضغط او محاولة ابتزاز في قضية مقدّسة لدى جميع المغاربة. غير ان المغرب سيبقى منفتحاً ودائم الاستعداد للحوار البناء من اجل إيجاد حل سياسي نهائي لهذا النزاع المفتعل».
مرّة أخرى، يحتفل المغرب بـ»عيد العرش» على طريقته. هناك شعب متصالح مع مؤسسة العرش ومؤسسة العرش المتصالحة مع الشعب. هناك عنوان واحد لهذه العلاقة هو الثقة المتبادلة. ليس افضل من الوضوح لخدمة هذه الثقة المتبادلة التي جعلت البلد متصالحاً مع نفسه قبل ايّ شيء آخر. مثل هذا التصالح مع النفس يعكسه نزول محمّد السادس الى الشارع في تطوان للقاء المواطنين وسماع ما يطمحون اليه. كان المنظر مؤثراً في منطقة لا يجرؤ سوى عدد قليل من قادتها على الخروج من الحصن الذي يقيمون فيه.
بكلام أوضح، هناك ترجمة للتجربة المغربية على ارض الواقع. تتمثل هذه الترجمة بالاهتمام بكل تفاصيل الوضع الداخلي وبالعودة الى الاتحاد الافريقي في سياق تأكيد العمق الافريقي للملكة وتطوير العلاقة بين الجنوب والجنوب. عادت افريقيا الى المغرب الشريك الحقيقي في الحرب على الإرهاب. لا تغيير في الموقف المغربي، خصوصا لجهة رفض وجود دولة وهمية تحاول الجزائر استخدامها بغرض الابتزاز ولا شيء آخر غير الابتزاز. هناك ذهنية تجاوزها الزمن يرفض المغرب الوقوع في اسرها. على العكس من ذلك، عمل على تجاوزها بدعم من الأكثرية الافريقية التي جعلت الاتحاد الافريقي يعود الى جادة الصواب أخيراً.
إضافة الى ذلك، بات الجميع يدرك انّ المغرب مرتبط بالخليج ولديه جسوره مع افريقيا وأوروبا. البلد في وضع يسمح له بممارسة أدوار في اتجاهات عدة ووفق ابعاد مختلفة.
في النهاية، المغرب «ليس محمية تابعة لاي بلد» كما يقول محمّد السادس، مضيفاً انّ «انفتاحه لا يعني تغيير توجّهاته» مشيراً الى ان «القمة التي جمعتنا باشقائنا قادة دول مجلس التعاون الخليجي رسّخت الشراكة المغربية – الخليجية كتكتل استراتيجي موحّد ووفق الاسس الصلبة لنموذج فريد في مجال التحالف العربي». مع الوقت، تبين ان المغرب حاجة عربية وافريقية وأوروبية في الوقت ذاته. يحدث ذلك فيما العالم يخوض حربًا على الإرهاب يمكن وصفها بأنّها تعطي الإشارات الاولى لحرب جديدة ذات طابع كوني…