من يزور المغرب هذه الايّام، في الذكرى الثامنة عشرة لصعود الملك محمّد السادس الى العرش، يكتشف بلدا عربيا مختلفا. بلدا يتقدّم بخطوات مذهلة الى أمام، من دون تجاهل الثوابت التي تميّز المجتمع المغربي المؤمن بالإسلام المعتدل البعيد كلّ البعد عن أي تزمّت. هذا ليس عائدا الى أجواء الحرّية السائدة في المملكة بمقدار ما انّه عائد الى رغبة واضحة في نقل البلد من مرحلة الى أخرى في ظلّ دستور جديد اقرّ في استفتاء شعبي في العام 2011.
كانت المفاجأة التي رافقت احتفالات «عيد العرش» الانتقادات الصريحة التي وجهها محمّد السادس الى الأحزاب المغربية التي لم تستطع، على الرغم من الإصلاحات السياسية والدستور الجديد، لعب الدور المطلوب منها على الصعيد الوطني. اضطر الملك مرّة أخرى الى إعادة توجيه البوصلة كي لا تضلّ الأحزاب طريقها وتنهمك في معارك صغيرة لا طائل منها.
لذلك لم يتردّد محمّد السادس في خطاب وجّهه الى الشعب المغربي بالقول موجها كلامه الى زعماء الأحزاب: «كفى. اتقوا الله في وطنكم، إما ان تقوموا بمهامكم كاملة وإمّا ان تنسحبوا، فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون».
هناك رجال ونساء صادقون في المغرب. هناك نساء يلعبن أدوارا في غاية الاهمّية على غير صعيد. هناك تفوّق للمرأة على الرجل في أحيان كثيرة. تجد المرأة المغربية في كلّ مكان وكلّ موقع، بما في ذلك في مجال الامن حيث شرطيات بكامل اناقتهن في خدمة المواطن. هناك نساء يعملن ليلا ونهارا لإعالة عائلات بكاملها. شابات مغربيات موجودات في كل المواقع المهمّة، خصوصا في القطاع الخاص يعملن من اجل إثبات ان هناك مساواة حقيقية بين الرجل والمرأة في المغرب. وهذا عائد قبل كلّ شيء الى تشجيع من الملك نفسه للمرأة كي تلعب دورها على كلّ صعيد.
لعلّ اكثر ما يلفت النظر في «عيد العرش» الذي جرى إحياؤه هذه السنة في مدينة طنجة التي حلّ فيها ضيف كبير هو خادم الحرمين الشّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، تلك الروح التي تميّز المغرب. انّها روح التسامح والانفتاح التي تذكر بالاندلس حين كان العرب في مملكة اقاموها بلغوا فيها عز مجدهم. وقتذاك كانت العلوم مزدهرة وثقافة الحياة تعلو على كل ثقافة أخرى.
بين الحضور في «عيد العرش»، مواطنون مسلمون وآخرون يهود جاؤوا لتأكيد الولاء. هناك رجال دين مسيحيون جاؤوا للسلام على محمّد السادس. هؤلاء رؤساء كنائس موجودة في المغرب، بينهم أساقفة كاثوليك وامرأة تمثل الكنيسة البروتستانتية ورجل دين يمثل الكنيسة الارثوذكسية الروسية. كانوا كلّهم في حضرة «امير المؤمنين» الذي يعتبر نفسه مسؤولا عن كلّ انسان موجود في المملكة المغربية بغض النظر عن دينه ومذهبه.
سرّ المغرب في انّه متصالح مع نفسه اوّلا. لا أطماع له خارج حدوده، بل سعي مستمرّ الى مزيد من الانفتاح والتطوير للبنية التحتية. هناك علاقات متميّزة مع أوروبا ومع الدول الكبرى كلّها، وهناك تركيز على العمق الافريقي، خصوصا بعد عودة المغرب الى الاتحاد الافريقي. باتت افريقيا موضع تركيز للمغرب الذي لا يكتفي بمساعدة البلدان الفقيرة في مجال الزراعة وتحسين الخدمات الطبّية، بل يعمل أيضا على نشر الإسلام المعتدل عن طريق تعليم أئمة افارقة المبادئ الصحيحة للدين في داخل المغرب.
بالنسبة الى اللبناني الذي يزور المغرب، تأتي المفاجأة من خلال البنية التحتية المتطوّرة، خصوصا شبكة الطرق الحديثة التي أصبحت تربط كلّ المدن الكبرى بعضها ببعض. لم تعد حاجة الى اكثر من ساعة ونصف ساعة، وربّما الى اقلّ من ذلك، للوصول الى الرباط من الدار البيضاء. ولم تعد حاجة الى اكثر من ساعتين ونصف ساعة بين الرباط وطنجه. ليس بعيدا اليوم الذي يباشر العمل بخط القطار السريع بين الدار البيضاء، اكبر مدينة مغربية والعاصمة الاقتصادية للمملكة، وبين طنجة التي هي على مرمى حجر من اسبانيا.
اختارت شركات عدة مثل «بيجو» و«رينو» إقامة مصانع في طنجه مستفيدة من اليد العاملة الرخيصة المؤهّلة فيها من جهة وقربها من أوروبا من جهة أخرى. صار المغرب يستقطب هذه الايّام مواطنين اسبان يأتون للاستثمار فيه في ضوء الازمة الاقتصادية التي عصفت باوروبا. في كلّ مدينة مغربية، هناك مطاعم اسبانية اقامها اسبان بعدما كانت اسبانيا في الماضي وجهة عدد كبير من المواطنين المغاربة.
هناك عين ساهرة على السياسة في المغرب. انّب محمّد السادس الأحزاب المغربية والسياسيين. هناك زعيم حزب كبير اضطر قبل ايّام الى تقديم استقالته بعدما اعترف بانّ «أداء» نواب الحزب والمسؤولين المحليين في البلديات لم يكن في المستوى المطلوب. كذلك هناك عين على الامن وعلى الحرب المستمرّة على التطرّف والإرهاب، وهي حرب تشمل مكافحة الفقر الذي يوفّر حاضنة للتطرّف والإرهاب، خصوصا في محيط المدن الكبيرة.
مفرح ان يشاهد المواطن اللبناني بلدا عربيا يتقدّم. لا يقتصر الاهتمام المغربي على تصويب الحياة السياسية وجعلها تصبّ في خدمة الإصلاحات التي كان الملك وراء إقرارها. هناك اهتمام بالانتقال الى مرحلة الارتباط بالعالم الحديث، أي بكل ما له علاقة بالثورة التكنولوجية. كذلك، هناك اهتمام كبير بالبيئة، خصوصا بتوليد الكهرباء بفضل الطاقة الشمسية وسرعة الرياح. باتت المراوح الكبيرة التي تولد الكهرباء بفضل سرعة الرياح من معالم الجبال التي يمرّ فيها من ينتقل من طنجة الى تطوان.
هذا لا يعني ان لا تحديات امام المغرب ولا صعوبات بمقدار ما يعني انّ الاعتراف بالتحديات والصعوبات يشكّل حافزا للتقدّم. على من يبحث عن مقياس للتقدّم في المغرب العودة الى لغة الأرقام التي لا تخطئ. تعكس هذه اللغة قدرة على الذهاب بعيدا في تطوير بلد لا ثروات طبيعية كبيرة فيه، وذلك بالاعتماد على ثروة اسمها الانسان. والانسان في المغرب هو المرأة والرجل وهو فوق ذلك ثقافة العمل اليومي من دون كلل او ملل.