مكتسبات سمير جعجع من لقاء الرابية كثيرة. لكنها، على أهميتها، لا تقارن بسروره باندراجه ضمن خطة المستقبل للهروب إلى الأمام، علّ ميشال عون يخسر كل شيء. وحده الهروب إلى الأمام لا يزال ممكناً بنظر الحريريين وأدواتهم
يسرّ العونيون طبعاً بزيارة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع للرابية، وتتباين الآراء السعيدة بين معتقدين أن جعجع يسعى إلى استلحاق نفسه بالتقرب من الجنرال بعد استشعاره بقرب انتخابه رئيساً ليظهر بمظهر «صانع عون رئيساً»، ومن يفترضون أن زيارته للرابية في هذه اللحظة يقوي موقف الجنرال. إلا أن إجماع القوى السياسية على عدم وجود أي مؤشر إلى انفراج قريب في الاستحقاق الرئاسي، والتدقيق جيداً في ما سرب من اجتماع الرجلين وما قالاه في إطلالتهما الصحافية، يوحيان بأن السرور العوني ليس في محله.
بداية لا بدّ من التوقف عند الفارق الكبير في إدارة التيار لحواره مع كل من المستقبل والقوات، على نحو يبين الفارق في طريقة عمل كل من الوزير جبران باسيل والنائب إبراهيم كنعان: باسيل عمد فور اتصاله بالحريري إلى رفع سقف التوقعات، مقنعاً الجنرال بالإيجابية الحتمية لانفتاحه على المستقبل، مكتفياً بغمزة حريرية من هنا وقالب كاتو من هناك. أما كنعان، فخفض سقف التوقعات، وأصر على توثيق كل المحادثات بمحاضر مكتوبة. وفي النتيجة، تبين أن آمال باسيل لم تكن في محلها، وهدّت اتهامات الجنرال للحريريين بالنكث بوعودهم محاولات بناء الثقة، فيما أفضت جهود كنعان إلى كتابة ورقة مشتركة شديدة الوضوح. إلا أن مقارنة ورقة التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله، مثلاً، بالورقة الأخيرة، تبين وضع الأولى إصبعها على أكثر الملفات تعقيداً بنحو مباشر وصريح، فيما تكتفي الثانية بعموميات تحتمل التأويل، مع تأكيد الطرفين أن الورقة التي استغرقت صياغتها ستة أشهر مجرد مقدمة لنقاش التفاصيل في الأشهر (أو الأعوام) القليلة المقبلة. يعتبر العونيون إنجازاً رئيسياً مطالبتهم المشتركة والقوات بـ»انتخاب رئيس للجمهورية قوي ومقبول في بيئته وقادر على طمأنة المكونات الأخرى»، باعتبارها مواصفات تنطبق على الجنرال حصراً، إلا أن القوات قادرة على القول غداً أو بعده إن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يمكن أن يكون رئيساً للجمهورية قوياً (اقتصادياً ودولياً!) ومقبولاً في بيئته وقادراً على طمأنة المكونات الأخرى. أما البند المتعلق بـ»الابتعاد عن كل ما من شأنه التلاعب بأحكام الدستور أو إساءة تفسيره» فيتطابق مع موقف تيار المستقبل من مبادرة عون الرئاسية. وكذلك البند الذي يصف الجيش بأنه «ضامن السيادة والأمن القومي»، هو حق تريد به قوى 14 آذار باطلاً، حاله من حال الدعوة إلى «نسج علاقات تعاون وصداقة مع جميع الدول، ولا سيما العربية». أما اكتفاء الطرفين بالمطالبة بإقرار قانون انتخاب يؤمن تصحيح التمثيل النيابي فيعتبر خطوة مشتركة إلى الوراء، بعد اتفاقهما في بكركي على القانون الأرثوذكسي كضامن وحيد للشراكة الحقيقية قبيل تراجع القوات. فيما البند المالي الذي يعتبره العونيون انتصاراً فسيوافق الرئيس فؤاد السنيورة بنفسه عليه، طالما هو عموميات مبدئية لا تدخل بالتفاصيل.
إلا أن الأهم من مضمون النوايا هو نية جعجع من زيارة الرابية في هذا التوقيت بالذات: عملياً نجح الجنرال من خلال تصعيده في الأسبوعين الماضيين، وتأكيد حزب الله تأييده المطلق له، في رفع منسوب الخشية الحريرية على حكومة الرئيس تمام سلام التي يعتاش الحريريون سياسياً وخدماتياً ومالياً منها. بدأ الحريريون، بالتالي، البحث عن وسيلة تتيح لهم تهدئة عون من دون التنازل سواء في ملف التعيينات الأمنية أو رئاسة الجمهورية، مستعينين بكل الأدوات من مبادرة النائب وليد جنبلاط مروراً بزيارة جعجع للرابية وصولاً إلى قول الحريري إن التفاهم لا يزال ممكناً مع عون. يبدو واضحاً أن المطلوب هو تخدير الجنرال بوعود رئاسية أكثر فأكثر، وقد دخل جعجع على خط التلاعب بالرابية بعدما احترقت أوراق الحريري. مع العلم أن لا شيء يستدعي جلسات حوار وترقباً وانتظاراً. فإذا كان جعجع جدياً بمطالبته بانتخاب رئيس قوي في بيئته وقادراً على طمأنة المكونات الأخرى يمكنه أن يقول للجنرال: مبروك، ليتجها معاً مباشرة إلى المجلس النيابي. عملياً لا شيء اسمه «تفاهم لا يزال ممكناً». وحده الهروب إلى الأمام لا يزال ممكناً بنظر الحريريين وأدواتهم.
صحيح أن جعجع نجح بتكريس رغبته ــــ ولو إعلامياً ــــ بأن يكون الزعيم المسيحي الثاني بعد عون، موحياً بوجود ثنائية تحتكر الشارع المسيحي. وصحيح أن «السنوات العجاف» طويت من دون اعتذار من ضحاياها الكثر. وصحيح أنه المستفيد الأبرز من عدم تعيين شامل روكز قائداً للجيش، ومن إثباته للرأي العام أن زعامة عون وتحالفاته عجزت عن تعيين قائد للجيش كما عجز ووزراءه العشرة عن تعيين مدير عام واحد طوال عهد الرئيس ميشال سليمان. لكنه اليوم لا يفكر في كل هذه المكتسبات الصغيرة على أهميتها. هو مسرور بخطة المستقبل للهروب إلى الأمام، علّ ميشال عون يخسر كل شيء بالكامل، قبيل خسارته رئاسة الجمهورية.