نقلت على صفحتي مقالة بشارة شربل، لا لأنه رئيس تحرير الصحيفة التي تنشر كتاباتي، بل لأسباب أخرى سأوضحها، ثم نقلت رد الوزير محمد مرتضى لأنه أثار فيّ فضول المشاركة في نقاش الموضوع من غير أن أتدخل في مضمون المقالتين.
سأشارك من غير استئذان لسببين. الأول هو زعمي بأن الأمر يعنيني أكثر من سواي، لأنني ما زلت أدفع أثمان السباحة ضد التيار منذ بدايات الطائف ضد كل أهل الطائف، إذ رأيت في ما رأيت أن الخروج من آليات الحرب الأهلية والدخول في إعادة بناء الوطن ينبغي أن يعتمد معياراً جديداً قوامه إعادة بناء السيادة الوطنية، أي سيادة الدولة على حدودها وداخل حدودها.
كلفني ذلك خصومة مع الأقربين والأبعدين. مع الأقربين المتحدرين من بقايا الحركة الوطنية لأنهم استمروا يعتمدون معيار العلاقات المميزة مع سوريا وحجم التضحيات من أجل القضية الفلسطينية ولو على حساب الدولة؛ ومع الأبعدين المتحدرين من خليط الجبهة اللبنانية وفريق 14 آذارلأنهم تحولوا إلى حركة تحرر وطني من عدو خارجي، ولم يصغوا إلى نقدي ومناشداتي المستمرة لهم بالبحث عن عدو الداخل، وهو أشد خطراً من أعداء الخارج، لأنه كان وما يزال معششاً في آليات عمل النظام. أذكر دائماً عند الكلام عن العامل الداخلي قول الشاعر محمد الماغوط عن غياب الحرية في العالم العربي: قطعاً أنا لست مربوطاً إلى رحمي بحبل سُرّة بل بحبل مشنقة.
السبب الثاني هو أن قراءاتي النقدية لتجربة الحرب لم تنقطع منذ الطائف، كما لم تتوقف دعوتي إلى إعادة بناء الدولة كشرط أساس لإعادة بناء الوطن. هذا السبب بالذات حفز بعض الأصدقاء في حركة أمل على اختياري، مع آخرين سواي، تعبيراً عن انفتاحهم على الرأي الآخر، لتقديم مساهمة نقدية لتجربتهم، ورأيت أن نقاش سلوك حضرة القاضي قد يشكل المقطع الأخير منها أو حاشية من حواشيها.
يوم كنت غارقاً إلى ما فوق أذنيّ في العصبية الحزبية ومدفوعاً بحماسة مراهقتي السياسية، رحت أقدم لأحد كبار القضاة في لبنان وثيقة مؤتمرية للحزب الشيوعي اللبناني عنوانها نحو حركة تحرر وطني عربية من طراز جديد، أي التحرر من عدو خارجي، سألني هل من مكان في مشروعكم النضالي للدولة اللبنانية؟ سؤال نقلني من اليقين إلى النقد. وحين أصدرت عام 2006، كتابي “اغتيال الدولة”، وكانت السياسة قد فعلت فعلها الشنيع بحق القضاء، قصدته لأقدم له نسخة من الكتاب فكان سؤال آخر نابع من إحباط وخيبة، ماذا بقي من الدولة ليغتالوها؟
لا تفاصيل المقالة ولا تفاصيل الرد عليها هو ما استوقفني، بل إدانة بشارة شربل لموقف من كان قاضياً قبل أن يؤتى به وزيراً، ولهذا نقلتها على صفحتي. وعند قراءتي الرد عليها وجدتني أمام نص من عيون الأدب السياسي يصلح أن يكون درساً في البلاغة والفصاحة كما في أخلاق التسامح والحوار الرصين، عزّ مثيله في زمن انهيار لغة التخاطب إلى حضيض الأحذية والحمير وأقذع أنواع الشتائم والسباب.
“إننا قدمنا إلى الوزارة من مقامٍ أسمى…ونحن هبَطْنا إليها من علِ”. هذا صحيح، ومنه بالضبط تبدأ الإدانة. القضاء هو الأصل وهو الأبقى وفضيلته كسلطة بل امتيازه على سائر السلطات، أنه ملاذها الأخير. يذكر اللبنانيون شارل ديغول الذي هنأ اللبنانيين بقضاء أصدر حكمه استناداً إلى القانون لا إلى رغبة الحكومة الفرنسية.. ويذكرون فؤاد شهاب حين رفع صوته في وجه القاضي الياس سركيس ثم اعتذر منه قائلاً، فعلت ذلك لأن حجتي كانت ضعيفة. ويذكرون فؤاد بطرس الذي هبط على موقع الوزير من علٍ وظل يتعامل مع الوزارة من موقعه العالي أي بنزاهة القاضي، حتى بات الرقم الصعب بين أهل الحكم قد يكون هبوطاً من عل. لكن، قد يكون سقوطاً أيضاً، والفارق أكبر من أن يكون لغوياً. هبوطٌ من عل إن كان صوت القضاء وسفيره وسيف عدالته داخل الحكومة، وسقوط إن كان قد غادر عرينه ليكون فريسة المتحاصصين. القضاء هو الثابت والوزارة هي المتحول. لن تعوض فصاحة المقالة وبلاغتها عن لهجة التهديد والوعيد التي يجنح لاستخدامها ميليشيّو آخر زمن ومستبدّو كل الأزمان، لكنها بالتأكيد لا تليق بقاض سيستقبله، حين عودته، بوجوه متجهمة، رفاقه وأهل بيته في نادي القضاة وفي مجلس القضاء الأعلى. حصل ذات زمن أن القضاء كان مهاباً والسياسي كان يمتثل لسيادة القانون. أما اليوم فمن نافل المعلومات المتداولة أن معيار السياسي في الاختيار هو الولاء لا الكفاءة. ارتبك رجال السياسة وتهرّبوا من عقاب الثورة، فاختبأوا خلف أشخاص أكفاء من أهل الاختصاص أو من أهل الخبرة، اختبأوا خلف الولاء لا خلف كفاءة جعلوها متراساً يتحصنون بها أو يسترون بها مسؤوليتهم عن انهيار الوطن. لو عرضت على فؤاد بطرس لقابل العرض بالرفض حرصاً على البقاء وعلى إبقاء القضاء في الموقع العالي. حين بدأت الأحزاب الشيوعية في العالم بالانهيار، استعان جورج حاوي لتوصيف سقوطها أو هبوطها، لا فرق، بقول الشاعر، “كجلمود صخر حطه السيل من علِ”، ونصح بعدم الانتظار، فالصخر سيبلغ القاع آجلاً أم عاجلاً. سياسيو اليوم يمعنون في إهانة الكفاءات فيدفعون بها بديلاً منهم إلى قاع الأزمات. كفاءات حكومة اليوم مثل شيوعيي الأمس، لم يصدقوا بأن الارتطام بالقاع مصير محتوم وبأن عليهم العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه بدل أن يلعبوا دور كبش الفداء دفاعاً عن منظومة في طريقها إلى الزوال، وأول ما ينبغي إنقاذه من سطوة السياسيين هو القضاء. تناقلت الصحف خبر مطالعة قانونية لحضرة القاضي الوزير. لا أسمح لنفسي بالتعليق عليها، فهناك اختصاصيون أكثر دراية مني بشؤون القانون، لكن ما أنا متيقن منه هو أن مجلس الوزراء ليس المنصة الصالحة لعرض عضلات ومبارزات من هذا النوع. تذكرت ما قاله فلاّح في سهل الميذنه حين سأله يوسف خطار الحلو لماذا يفلح أرضه على بغل بدل الثورين، فأجابه، أسوة بحال السياسيين، “ما حدا منهم بيشتغل شغلته”. الشيعية السياسية رائدة في تبديل الأدوار، في تحويل الحكومة إلى منصة للسجال في فقه القانون وفي الميثاقية والدستورية والشرعية، وتحويل القضاء من سلطة إلى أداة، إلى مجرد أداة مهددة بالقبع إن لم تنفذ إرادة الميليشيات، وتحويل البرلمان إلى منصة للمكائد والتعطيل والتمديد. في سياق تبديل الأدوار قال لي صديق في حركة أمل إن القضاء يعتدي على صلاحيات السلطة التشريعية، فرويت له ما قاله محسن ابراهيم الذكي اللماح في اجتماع القيادة المشتركة اللبنانية الفلسطينية مع الرئيس السوري حافظ الأسد. خلال الاجتماع ورد إلى أبو عمار خبر اشتباك مسلح أمام ثكنة محمد زغيب في صيدا. حين سأل الأسد عن الخبر الذي شغل بعض الحاضرين، تولى محسن ابراهيم قراءته بظرفه المعهود: بينما كانت ثكنة متنقلة للجيش اللبناني مارة أمام محمولة ثابتة للمقاومة الفلسطينية حصل اشتباك مسلح ولم يبلغ عن ضحايا.
هبوط من علِ أم سقوط في لعبة السياسة؟ قد يكون السياسي بارعاً في توظيف الكفاءات، أما أن يرضى صاحب الكفاءة بمثل هذه الوظيفة فهذا، في زمن الرويبضة، يعد من الأخطاء الشائعة.