مثل الثنائيات في طوافة سيدنا نوح، عاشا إلى مداخل المئة، وغابا في يوم واحد. تجاوزا جميع فيضانات مصر، وظلا يعومان فوق ضفاف النيل مثل ورق البردي. سقطت الملكية عن بطرس بطرس غالي وظل باشا الجمهورية. وافترق عبد الناصر عن محمد حسنين هيكل وظل يتنقل بين رؤساء العالم كأنه ظله الباقي.
السر كان المهارة والاجتهاد. والسر الآخر كان عشقاً لمصر وولهاً بها. وكلاهما خيبته مصر في لحظة ضعف وتوتر واضطراب. أرسل انور السادات محمد حسنين هيكل إلى السجن، ولن يسامحه، وسوف يثأر منه بمرارة، بعضها لا يليق. وحرم السادات وحسني مبارك بطرس بطرس غالي حقيبة الخارجية، ولن ينسى. وسوف يقول إنه ابقي “وزير دولة للشؤون الخارجية” لأنه قبطي. قَبِلَ غالي، المتحدر من اسرة متهمة بالميل إلى الغرب، مهمة التفاوض مع اسرائيل على رغم ما يعني ذلك من تأكيد لعنة الأسرة. لكن هيكل طبع آخر: حارب السادات، وحارب مبارك، وتصرف وكأنهما أخذا الرئاسة منه.
لا سبب للمقارنة بين هيكل وبطرس غالي سوى المصادفة القدرية: أعتق ديبلوماسيي مصر، واعتق صحافييها، “ينصرفان” في يوم واحد، كأنما موعدهما الوحيد هو خارج هذه الدنيا. ولن يلتقيا، الأول باشا لم ينسَ لـ 23 يوليو انها خطفت مصر من ابناء طبقته، والثاني ابن بلد ينظر الى الاشتراكية ويتصرف مثل لورد. الأول عقدته أنه لم يستطع أن يصبح كاتباً كبيراً إلى جانب ثروته الاكاديمية، والثاني كاتب كبير كان يتصرف دائماً على أنه استاذ محاضر وأكثر معرفة من الأكاديميين.
الأول، استطاع البقاء في الضوء على رغم كل العناصر: استاذاً وكاتباً ووزيراً، ثم أول عربي اميناً عاماً للأمم المتحدة. الثاني كان الوحيد من رفاق عبد الناصر الذي بقي في الضوء والتأثير. جميع الناصريين الكبار زالوا، أو ازيلوا، في حياته أو بعد غيابه، ولكن بعد وفاة عبد الناصر، ظل هيكل يزداد شهرة وثروة وحضوراً. وفي هذا المعنى، ثمة قاسم آخر بينهما: المصريان اللذان بلغا هذه الدرجة من العالمية، والعربيان اللذان كانا الأكثر شهرة في حقليهما: الديبلوماسية والصحافة.
كلاهما حرص حرصاً فائقاً على مظهر الباشا واللورد. ربطة عنق وقورة لا تخلع، وبدلة غامقة، وساعة ذهبية فوق العادة. ولم يكن هيكل يخرج من دائرة الوقار مهما لجأ إلى الظرف، أو مهما كانت النكتة التي يسمعها مضحكة. ومهما طالت السهرة، أو الجلسة، لم يكن يسلّم نفسه إلى “الخوشبوشية”. بطرس غالي كان مصرياً ضاحكاً يستخدم النكتة موقفاً أو رأياً.
اتصل بي مرة وأنا أقود سيارتي في شارع المزرعة، فقلت له دعني اتصل بك لاحقاً لأنني أسوق. وقال: “ما تِركِن العربية وتِسمع”! وكان قد اتصل للتو بالرئيس حسني مبارك وتبادلا نكتة عن مادلين أولبرايت، لا يمكن نقلها هنا. ولا هناك. ولا هنالك.
تمتلىء مؤلفات بطرس غالي بالدعابات، ولكن خلفها رجل بالغ الجديّة، كدود، وبالغ الشعور بالمسؤولية. وكان يحلم بكل جديّة، بأن يصبح ثاني داغ هامرشولد في الأمم المتحدة. لكن فجاجة مادلين أولبرايت وعنجهيتها واستسلامها المطلق لنفوذ اسرائيل، قطعت عليه الحلم والمحاولة، فتوقف عهده عند الولاية الأولى. وعندما خرج، كان قد وضع مشروعاً شديد الطموح لتحويل هيئة الأمم إلى قوة عسكرية تنفيذية، بعدما أحزنه التقصير الدولي الرديء في مآسي رواندا.
كانت علاقات هيكل بالشخصيات الدولية استثنائية أيضاً. وبعدما فقد القابه رئيس تحرير “الاهرام”، ثم وزيراً، أصبح يشعر أنه يحمل الآن اللقب الأهم، هِكل. هكذا كان يشير إلى نفسه. والشخص الوحيد الذي كان يناديه “عمر” كان هدايت تيمور، أم علي.
صنع محمد حسنين هيكل محمد حسنين هيكل بعناية ودقة وجهد نادر. أدرك بعد عبد الناصر أن التجربة لا يمكن أن تتكرر، ولذا، يجب ألا تُخاض. اعتذر عن أن يصبح هيكل السادات. ثم اعتذر عن عروض مماثلة من صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي. سمك النيل لا يعيش إلا فيه. “النيل نجاشي/ اسمر حليوه” كان يدلِّله شوقي. ومن هو مصري يبقى كمصر.
خاض هيكل معارك عبد الناصر حياً، وثاراته ميتاً. ومن أجل ذلك تخلّى عن أصول مهنية وكتب أحياناً أشياء من نوع الإثارة، كالقول إن السادات هو الذي دس سماً في فنجان قهوة اعطاه بيده لعبد الناصر. والأرجح أنه مهما كان عبد الناصر متقشفاً، فلم يخل قصر القبة من قهوجي، أو تمرجي. وقبل أن “يستأذن بالانصراف” في عامه الثمانين، كتب سلسلة مقالات في “وجهات نظر” يروي في احدها أن الملك حسين جاءه إلى فندق “كلاريدج” من دون موعد ليقول له إنه مريض، ويريد أن يكون هو أول من يتبلغ. أي قبل الملكة نور وولي عهده، الحسن بن طلال. في كتاب سابق يروي أن البدر،إمام اليمن، جاء في زيارة إلى القاهرة، فأحيط بالتكريم. وفي أحد الأيام، كان يزور حديقة الحيوان عندما رأى شجرة “قات”، فترك الوفد المرافق، وقفز على الشجرة. وهات يا قات.
كان هيكل يشارك عبد الناصر، في محاربة الملكية بالعالم العربي وربما يحرّضه على ذلك. ولما خسر المعركة شعر بمرارة. ومرت علاقاته بالاسلاميين بعداوات ومهادنات. وعند حصول 11 ايلول 2001 أصرّ على أنه لا يمكن بن لادن أن يفعل ذلك من دون تواطؤ مع آخرين. وقال يومها إن نائبه انور الظواهري رجل ساذج وغير قادر على تنظيم ما هو أقل من ذلك بكثير.
وكان يعتقد أن الأثر الخارجي أساء إلى معاني الإسلام التي وقعت في أيدي جهلة. وعلى سبيل المثال روى أن زعيم “طالبان”، الملا عمر، ذهب إلى التفاوض مع مسؤولين باكستانيين، فرأى في القاعة صورة معلقة فانسحب احتجاجاً، لأن الصور “ممنوعة في الاسلام”. ولم يكن صاحب الصورة سوى محمد علي جناح، مؤسس باكستان. كذلك، كان يقول إن الملا عمر يجهل الرابط بين ياسر عرفات والقضية الفلسطينية!
ربما كان هيكل في داخله، يحلم جدياً بأن تناديه مصر ذات يوم لكي يصبح رئيساً عليها. وإذا كان هناك حقاً من حلم خفي، فلم يكن غير ذلك. فقد كان مقتنعاً أن “الضباط الاحرار” من رفاق عبد الناصر، كانوا عسكريين لا يعرفون مثله تاريخ مصر ومجتمعها. وعندما حل السادات رئيساً بالنيابة، شعر أن 23 يوليو قد خطفت إلى غير رجعة. وعندما وصل مبارك، بحكم مقعد النائب ايضاً، كان يقول إن الرجل بلا ثقافة سياسية أو معرفة بالتاريخ.
وفوجىء الجميع بمسارعته إلى تأييد عبد الفتاح السيسي والوقوف قربه. وقد سألته يوماً إن كان يرى فيه حقاً مشروع ناصر آخر. قال إن الزمن تغير، والسيسي كان في السادسة عندما توفي عبد الناصر. غير أنه كان يرى فيه الحكم الوحيد القابل على صد موجة التطرف.
في الماضي كان هيكل يتحدث عن مزرعته، برقاش، على انها امتداد لمنزله على النيل ولمكتبه في “الاهرام”. وسألته ذات مرة عن أخبار برقاش، فقال إنه حاول الاهتمام بجيرانه لئلا يبدو الفارق فاقعاً: مستوصف. مكتبة عامة. مساعدات للمحتاجين. ولكن ذات يوم جاءه وفد منهم لشكره على كل ما فعل، إنما ليس هذا ما يريدونه حقاً. ماذا يريدون إذن؟ كتباً دينية.
بعد وصول الدكتور محمد مرسي إلى الرئاسة، أقدم جيران الأمس على احراق برقاش. وعندما حاولت تعزيته بشيء من الكلمات، قال: “أكثر ما أحزنني في الحريق، المخطوطات الدينية النادرة التي نقلتها من القاهرة إلى برقاش حرصاً عليها”.
ظل هيكل حتى اوائل التسعينات يضع كتبه بالانكليزية بسبب ما تعرضه دور النشر الكبرى، وما يوفر ذلك من شهرة عالمية. وعندما قرر الكتابة بالعربية، قدم لذلك بالقول انه كان يعتمد في الكتابة بالانكليزية على ثقته بترجمة ثلاثة: أكاديميين من مصر، و”الصحافي اللبناني الكفء”، الداعي لكم بطول العمر.
أواسط الثمانينات، كنت لا أزال اعتقد أن أفغانستان دولة خارج الخرائط، كما وصفها دوق اورليان في رحلة صيد. لذلك اعتقدت أن هيكل يتخيل عندما قال لي إن نتائج الصراع في افغانستان سوف تغير معالم العالم. قبله، أواخر السبعينات، قابلت رئيس تحرير “الموند” اندريه فونتين في مكتبه، وكان كل حديثه عن أهمية التطورات في بولونيا، لأنها سوف تغير معالم أوروبا. وربما العالم.
بولونيا، مسيو فونتين؟ إنني اسألك عن فرنسا وعن الصراع الاميركي – السوفياتي الذي لا يكف عن التفاقم. “أعرف. أعرف” قال المسيو فونتين، حامل اسم العائلة التي تعلِّم بالأمثال. وبعد سنوات قليلة تغير العالم من فرصوفيا ومن كابول.
وشيء أخير عن الرؤية السياسية. جاء بطرس غالي إلى بيروت في ذروة التفاؤل بحل سلمي في فلسطين. مررت به في “الفاندوم” وقلت له وأنا واقف: أعرف مشاغلك ومواعيك. جئت فقط أسلم، وبالمناسبة اسألك: هل أنت متفائل؟ ولكزني في صدري ساخراً: “مِش تنضج شوية؟ اسألوني أنا يا اخي. أنا فاوضت الجماعة دول عشر سنين. انتو يلزمكم عشرين، ثلاين، خمسين، هوه أنا عارف”!
كبار مصر، إثنان إثنان، مثل طوافة سيدنا نوح. بطرس غالي وهيكل. فاتن وعمر. ورئيسان في السجن، عدو “الأخوان” وزعيم “الأخوان”.