جمهورية مرشحة للشلل والفراغ
والقياصرة روّاد حلول ورهانات
وقف الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري في رحاب القصر الكبير، وراء أسوار الكرملين، قبل مغادرته المكان الذي وقف فيه والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري قبل سنوات، مأخوذاً بالمشاهد الرائعة، الا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بادره بالسؤال المحرج: هل أنتم ذاهبون من عند القيصر لزيارة القيصر؟
وأردف: في بلاد القياصرة، نتكلم جميعاً لغة واحدة: قيصر الكرملين، يتكلم بمنطق واحد يتحدث فيه قيصر الروم. ووالدكم الرئيس الشهيد، عندما زارني قبل سنوات، توجه من وراء هذه الأسوار، الى زيارة البطريرك الروسي السابق، كما تتوجهون انتم اليوم لزيارة خليفته البطريرك كيريل. في موسكو فلاديمير بوتين واحد، وفي بطريركية موسكو، وكل الروسيا بطريرك ثانٍ، ولغة الاثنين لغة واحدة.
وقيل في محيط محدود جداً، إن في العاصمة الروسية، مذهباً واحداً، لا مذهبان.
وعقب الرئيس سعد: نأمل أن تجد أيضاً سعياً واحداً أيضاً، لانقاذ جمهورية لبنان من أزمات، قد تودي بالجمهورية وبجمهورها الى الهلاك.
وأنا تكلمت بصراحة، وسمعت منه مواقف صريحة، تفضي الى خلاص لبنان وسوريا والشرق الأوسط، الى حقبة جديدة من الانفراجات.
أوضح الرئيس سعد الحريري للرئيس بوتين أنه آتٍ الى موسكو، وفي ذهنه وعقله وروحه، مبادئ واحدة، قد نختلف في تفسيرها، لكننا نتفق على معالجتها بالحكمة، وعلى مداواتها بالحنكة، وبين الحنكة والحكمة مسافة قصيرة اذا ما تفهمنا أساليب معالجتها، لكنها طويلة جداً، اذا ما هيمنت عليها التباينات.
الا ان الرئيس بوتين، فاجأ الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بأنه، كما عرف، باقٍ في موسكو، لأن وزير الدفاع الأميركي آتٍ الى العاصمة الروسية للقائه، قبل أن يغادر في اليوم التالي، العاصمة الجميلة، التي كانت في مناخ ربيعي هادئ، لا أثر فيه للبرودة. أنتم الآن بعد مبادرة ارثوذكسية، ووالدكم الراحل، جاء الينا بمبادرة ارثوذكسية ومن يستقيم رأيهم يكون الله معهم دائماً.
عندما وصل الرئيس الشهيد رفيق الحريري الى موسكو، على رأس وفد من ثمانين شخصاً، صعد الى الكرملين لمدة ساعة ونصف الساعة، ومعه ثلاثة أرثوذكس، الأول هو رئيس الأساقفة نيفن صيقلي، واثنان مدنيان معروفان في عالم الكتابة، ومشهود لهما في دنيا الكلمة.
كان الوفد اللبناني الكبير، قد توجه الى المطار، وصعد بعضهم الى الطائرة الخاصة للرئيس الحريري، ومعهم الحقائب والوازم والوزير السابق محمد يوسف بيضون. ولدى وصول رئيس الحكومة الراحل الى المطار، طلب من الجميع موافاته الى الفندق لتناول العشاء، وراح يجري اتصالات مع المملكة العربية السعودية، لارسال طائرة فخمة على غرار الطائرة التي أقلته الى موسكو، ليعود بها الى المملكة، من بلاد تحررت من الممالك والملوك وأصبحت ملاذاً لنظام بروليتاري أولاً، ولنظام جديد، على انقاض النظام القديم.
ما هي المفاجأة التي حملت وزير الدفاع الأميركي الى زيارة موسكو، ودفعت بالرئيس رفيق الحريري الى طلب طائرة بوينغ ٧٥٧، للعودة بالوفد المرافق له الى بيروت، من بلاد الساحة الحمراء سابقاً، الى المملكة القابضة على نظام صارم يقوده الملك فهد بن عبد العزيز واخوانه.
لا حد يعرف حتى الآن، أسرار تلك المفاجأة، لكن الرئيس الشهيد رفيق الحريري وحده، كان يدري بها، هو والرئيس الروسي بوتين.
ولكن، ما هي قصة الزيارة الجديدة للرئيس سعد الحريري الى موسكو، وما هي الأسباب الكامنة وراءها؟
كل ما هو معروف حتى الآن، ان الزيارة الجديدة، مثل الزيارة القديمة، هي زيارة ارثوذكسية، وان الحل للأزمة الرئاسية اللبنانية، يكون حلاً على الطريقة الأرثوذكسية أو لا يكون، ولهذا السبب فقد أوفد الرئيس السابق للحكومة وفداً رفيع المستوى ليمهد للزيارة، لأن المحادثات مع وزير الخارجية الروسي لافروف قد تساهم أو ساهمت في انضاج الظروف التي حملت الرئيس سعد الحريري الى موسكو، من اجل مبادرة لانقاذ الجمهورية في وقت تبدو فيه هذه الجمهورية محاصرة من معظم الجهات.
في المعلومات ان الرئيس سعد الحريري، قصد العاصمة الروسية، لأنه وجد أن معظم الحلول المطروحة تمعن في تعقيد الحلول لا في تسهيلها، وان المطلوب مخرج لانهاء الحرب السورية، لا لإذكاء الصراع في سوريا، وانه حاول اقناع الرئيس فلاديمير بوتين، بأن ما هو مطروح بين جنيف وموسكو ودمشق وبيروت، يدفع الى تزخيم الشروط، لا الى حلحلة عقدها.
ومن أسباب ذلك، ان النظام السوري يسعى الآن الى احكام قبضته على النظام على حلحلة هيمنته على الصراع، وان الحديث عن انتخابات رئاسية، بعد خمس سنوات، تعيد الرئيس بشار الاسد الى السلطة، ليس الحل المطلوب، وان المطلوب سريعاً التمهيد لحل سياسي على الطريقة الديمقراطية التي لم تعرفها سوريا، منذ استيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة، سواء في عصر القيادة القومية للحزب، او بعد الانقلاب الذي اطاح به الرئيس حافظ الاسد بالنظام في العام ١٩٧٠.
ويقال ان الرئيس سعد الحريري اوضح للرئيس بوتين، انه في حقبة الخمسينات، قاد العقيد أديب الشيشكلي انقلاباً عسكرياً، جعله في الموقع الأول في تراتبية السلطة، وعندما حلت مواعيد الانتخابات الرئاسية في لبنان، كان ثمة مرشحان هما الرئيس كميل شمعون والاستاذ حميد فرنجيه. ويُروى أن أديب الشيشكلي اتصل برئيس الأركان السوري، وهو لبناني الأصل، وسأله عمن يختار لرئاسة لبنان، فرد بأن كميل شمعون يحمل لقب فتى العرب الأغر. وهكذا كان الأمر.
ماذا يحدث الآن؟
يبدو أن حزب الله وهو يحتل القوة الأبرز على الساحة اللبنانية، مع حزب التغيير والاصلاح يرشحان الرئيس العماد ميشال عون، ولن يغيرا خيارهما الا اذا قرر الجنرال الخروج من المعركة، اضافة الى ان سعد الحريري اقام حواراً مع العماد عون، واشترط لتأييده اجتذاب حلفائه المسيحيين الى صفوفه، وعندما لم يتحقق هذا الأمر، جرى حوار بينه وبين النائب سليمان فرنجيه الذي يحظى بتأييد كتلة المستقبل والتيار المسيحي المتحالف معه، لكنه يشترط للنزول الى المجلس النيابي خلال جلسات الإنتخاب، حضور حزب الله، وهذا ما جعل النصاب المطلوب لإنعقاد جلسة غير متوافر، لأن الرئيس نبيه بري انتزع موافقة اعضاء مكتب المجلس على ان يكون النصاب هو ثلثا أعضاء المجلس، لا نصف الأعضاء زائدا واحداً.
إلا أن النائب فرنجيه يقول انه يحظى بأكثرية نيابية توصله الى الرئاسة، فيما يقول الجنرال عون انه يجسد القوة المسيحية الكبرى، بعد ترشيحه للرئاسة، من قبل الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية.
وهكذا، يبقى المسيحيون المستقلون من دون قرار حاسم بعد، مع أرجحية تأييد الوزيرين بطرس حرب وميشال فرعون، إضافة الى اعضاء حزب الكتائب الذين لهم مرشح بارز هو الشيخ أمين الجميل رئيس الجمهورية السابق.
ويصعب إنتخاب رئيس في ظل معارضة حزب الله والتيار الوطني الحر وإصرار النائب فرنجيه على عدم إلغاء نفسه وعدم الإنسحاب من معركة يعتقد انه أصبح ضامناً الفوز بها، إذا جرت الإنتخابات.
إلا ان السؤال يبقى: ماذا إذا ما جرت الإنتخابات البلدية قبل الإنتخابات الرئاسية؟
والجواب: إن الترشيح معقّد، وصعب، كما ان فوز اي مرشح ليس بالأمر اليسير.
ويراهن الرئيس ميشال عون على تأييد قوي له من حزب الله، لأنه سبق وأيّده علناً وجهاراً، قبل ترشح الوزير فرنجيه، لأن زعيم تيار المردة يواصل معركته، وكانت المأدبة التي اقامها على شرفه مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، كانت بمثابة تزكية شمالية للزعيم الزغرتاوي، خصوصاً وان معظم نواب الشمال يمحضونه التأييد وفي مقدمتهم الرئيس نجيب ميقاتي والوزيران السابقان فيصل كرامي ومحمد الصفدي.
ومع ذلك لا يتوقع كثيرون انتخاب رئيس هذه السنة، أو في السنوات الآتية، إلا إذا تبدلت موازين القوى، وحصل ما لم يكن متوقعاً، وفي المقدمة رجحان كفّة النائب فرنجيه في أوساط المعارضة.
إلا أن ثمة نقطة هامة، ألا وهي حسم مواقف شبه معلنة للرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط والأمين العام ل حزب الله السيد حسن نصرالله سلباً او ايجاباً، لصالح المرشحين.
وكانت مخاطبة المفتي مالك الشعار للنائب فرنجيه بعبارة فخامة المرشح وتمسّك هذا الأخير بتأييد بيان بكركي وبأي مرشح حيادي يتم الإتفاق عليه، موقفاً، من شأنه حسم المعركة لأي من المرشحين عون وفرنجيه، واعلان قوى عديدة تمسكها ب فضيلة الانتظار لمعرفة هوية المرشح الثالث، والذي يجسّده الوزير السابق جان عبيد، على الساحة النيابية.
بيد ان القوى السياسية الفاعلة، لا تزال تراهن على تحرّك القوى الخارجية، في اتجاه مرشح معتدل، ما يوحي بأن الاتيان برئيس صعب، صناعة لبنانية هو من الأمور المطروحة بصعوبة، خصوصاً بعد الحديث عن زيارة آتية للرئيس الفرنسي هولاند للبنان، من شأنها ردم الهوّة بين وهاد تبقى من عادة وصفات الرؤساء في المرحلة الأخيرة من الصراع السياسي.
وهذه نقطة حسّاسة في السياق الرئاسي، لأن لرئيس حزب الله، والتيار البرتقالي الدور الأساسي في رجحان المواقف وترشيح أي مرشح مطروح.
الحراك المدني الى أين
طُرح هذا السؤال على المفكر الدكتور نزار يونس فأجاب: بأنه حاول الاستيحاء من تجاربه، لاسترداد التجارب المدنية التي كانت أشبه بدولة هجينة، وجاءت خلاصة ما توصلت اليه، بأن من سمات الجمهورية الضائعة، وان لا سبيل الى استردادها ما لم نمتلك الشجاعة المتحررة من هواجس الطائفية، وان الطريق الأقرب يمرّ في مندرجات وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت الحرب وحاولت القضاء على النظام السياسي، تاركة للبنانيين أنفسهم، من دون حاجة الى حماية أو وصاية أو مسؤولية البحث عن الصيغة البديلة الصالحة للانقاذ، والمؤهلة لصون الوطن وتفعيل دوره كمختبر انساني، وكساحة للقاء الحضارات والأديان ولتعارفها أو لتعايشها.
وفي رأيه ان ما واجهه من اخفاق ومذلة، ما هو إلاّ النتيجة الحتمية لنظام سياسي فاسد، في تكوينه، لأن هذا النظام يقود حتماً الى سلطة فاسدة والى دولة فاشلة، وفساد في السلطة يؤدي حتماً الى فساد في المجتمع، والى الاخلال في تماسكه وفي قدرته على ممارسة دوره الوفاقي.
وفي المقابل جرى التماشي، عن قدرات الشعب على ممارسة دوره الرقابي، نظراً لنقصٍ في أهلية المؤسسة السياسية وكفاءتها، لتكون استدامة النظام السياسي.
وهنا، لا بد لرئيس الجمهورية الذي أوكلت اليه المادة ٩٥ من الدستور، ترؤس الهيئة الوطنية للحوار، المعوّل عليه لاستيراث الصيغة اللاطائفية الجليلة للنظام الطائفي، ولا سبيل لاستعادة المجتمع المدني حيويته، من تشكيل الهيئة الوطنية للحوار السياسي.
الحراك المدني أو الانتفاضة الشعبية التي شهدتها شوارع العاصمة، ليست حدثاً عابراً أو حالة اعتراضية على الفساد أو على ملفّ من ملفاته العديدة. فهي من حيث اتساعها وزخمها وراديكاليتها تعبير عن وعي متنامٍ في أوساط الشباب في الجامعات، وعند النخب الثقافية والاجتماعية المتضرّرة من نظام المحاصصة الطائفي. أعترف بأن الحدث لم يفاجئني تماماً، كنت، منذ زمن، أتوقّع حصول تطورات قد تساعد على النفاذ من الفراغ الشامل الذي حلّفه نظام المحاصصة في صيغته الأخيرة التي أطلق عليها تسمية الديموقراطية التوافقية. هذه البدعة تقضي، نظرياً، بالتوافق المستحيل على تحاصص اقطاعيات فضفاضة بين أطراف ملتبسين لهم مصالح متناقضة، وفقاً لمعايير غامضة تحدّدها موازين قوى متغيّرة ومتبدّلة، بينما تترجم، عملياً، بتحويل الحيّز العام الى مزارع تتنازعها المواقع النافذة نيابة عن الكيانات الطائفية، أو تتملّكها عنوة في لعبة تقاسم المغانم، أو تعبث بها على قاعدة حقّ المالك في مُلكه.
في حقبة الوصاية التي تلن الحرب، غُيّب دور المجتمع المدني تماماً وشلّت فعاليته. حصل تشويه مريع للمنظومة القيميّة المثالية في أوساط القوى الشبابية التي عملت فيها الطوائف تقسيماً وإذلالاً وتهجيراً ودفعتها الى التآلف مع أنماط سلوكيات مجتمع الوصاية الطارئة، الانتهازية أو العدميّة. بات الفساد شطارة، وغداً اغتصاب الحيّز العام واستباحته حذاقة، وأصبحت الرشوة ريعاً طائفياً مشروعا. عُطّل دور المجتمع المدني في المراقبة والمساءلة، كما شلّ الشارع المطيّف والمرتهن، ما أتاح لنظام المحاصصة رفع القناع عن وجهه الشنيع.
كان جلياً أن السلطة الهزيلة، التي تولّت الحكم بعد انكفاء عهد الوصاية، عاجزة عن تلبية أبسط حاجات الأجيال الشابة، في الجامعات والأوساط الشعبية المهمّشة التي أسقطها نظام المحاصصة المرتهن للأنصار والأزلام ولتوزيع المنافع الزبائنية. كان من الطبيعي ان تتحرك هذه القوى، التي عانت الإلغاء منذ أمد طويل، لمواجهة المؤسسة المسؤولة عن إقصائها. غير ان ما آلت اليه الانتفاضات في البلدان المجاورة لم يكن مشجعاً للمطالبة باسقاط نظام المحاصصة الطائفي، خوفاً من أن يؤدي ذلك الى اسقاط الدولة وتقويض القليل الذي بقي من وجودها الرمزي. ما لم يكن واضحاً هو مدى تجاوب المجتمع مع الحراك المطالب بإسقاط النظام القائم وقابليّته للتعاطف معه واحتضانه على رغم ما خلّفته الانتفاضات في العالم العربي من مآسٍ وإجهاضات.