في الآونة الأخيرة، باتت في كثير من الأحيان تظهر في وسائل الإعلام الروسية مقالات تحمل في طياتها، رسائلَ أو إشارات تُرسل من خلالها إلى المجال العام النصائح والنقد تجاه الأنظمة الصديقة لروسيا عندما ترى هيئات السلطة، ومراعاةً لولائها لهذه الأنظمة، أنه من غير المناسب انتقاد تلك الأنظمة وتقديم المشورة لها علناً. وروسيا ليست وحيدة في استخدام هذا النمط.
على وجه الخصوص، لفت انتباه المراقبين الروس والعرب مقال نُشر مؤخراً في إحدى الصحف من قِبل المحلل والإعلامي الروسي الفلسطيني رامي الشاعر، المعروف بمقالاته العميقة والجريئة في كثير من الأحيان، التي كتبها من وجهة نظر وطني مخلص لروسيا واكتسب شعبيته بفضلها، والمعروف أيضاً بقربه من السلطات الروسية ومن بعض الدوائر في دمشق. في معرض تعليقه على عمل اللجنة الدستورية السورية تحت رعاية الأمم المتحدة في جنيف، يلاحظ الشاعر: «إن من الأشياء المزعجة والأكثر خطورة في المفاوضات، حسب رأيي، هي أن السلطة السورية تضع شروطاً مسبقة يستحيل على المعارضة تطبيقها».
فما هي إذاً هذه الشروط التي يعنيها هذا المحلل الروسي – الفلسطيني المعروف؟ يقول موضحاً: «الحكومة السورية تصر على اعتبار كل من يحمل أو حمل السلاح في أثناء النزاع إرهابياً، وبالتالي تستبعد تماماً العفو عن أولئك الذين قاتلوا ضد السلطة».
تجدر الإشارة إلى أن موقف السلطة هذا تمليه إلى حد كبير الرغبة في درء، ما هو غير مقبول بنفس القدر لكل من يحارب أو حارب إلى جانب الحكومة ناهيك بقادة البلاد، مطلب المعارضة لما تسمى «العدالة الانتقالية». ربما يكمن الطريق إلى المصالحة في «الخيار الصفري»، أي في الرفض المتبادل للتهم. لكن هل ستكون الأطراف قادرة على أن تتغلب على الحقد والكراهية التي تراكمت خلال النزاع المسلح، والذي تجاوز بمدته ضعف مدة حرب شعب الاتحاد السوفياتي ضد العدوان النازي؟
هل تعليق المحلل تعبير عن موقفه الشخصي أم رسالة من الكرملين وُجِّهت من خلاله؟ من غير المحتمل أن يتمكن أي شخص من تقديم إجابة دقيقة عن هذا السؤال. على أي حال، سيكون من الخطأ أن نرى وراء هذا نوعاً من التحذير الخفي حول احتمال ابتعاد موسكو عن موقف دمشق المتشدد: سياسة موسكو في دعم السلطة السورية ثابتة وغير قابلة للتغيير، هذا هو خطها الاستراتيجي. لكن موسكو تدعو باستمرار إلى المصالحة الوطنية من خلال حوار سياسي بين الحكومة والمعارضة. رامي الشاعر، الذي يستشعر دائماً بدقة الحالة المزاجية في المجتمع الروسي وفي السلطة، حتى لو كانت هذه الإشارة صادرة منه شخصياً، يعكس فيها شيئاً من الكلل بين الروس، الذين خاب أملهم بسبب عدم إحراز أي تقدم حقيقي في المفاوضات. وإذا كانت هذه الإشارة من الأعلى، فمن الواضح أنها تعدّ دعوة للإصلاح. ليس من قبيل الصدفة أن يتحدث المحلل عن العيوب التي تفاقمت بسرعة في سوريا خلال النزاع المسلح: الفساد ونمو العصابات الإجرامية المنظمة، وأن يدعو أيضاً الرئيسَ السوري إلى «التعامل مع سير المفاوضات بفهم أكبر» وكذلك «رفض الممارسات التي تؤدي إلى تأخير المفاوضات، وحتى انهيارها».
يزداد عدد الخبراء الروس، بمن فيهم أولئك الذين يتعاطفون مع دمشق ومنهم رامي الشاعر، الذين يتحدثون عن حتمية الإصلاحات في سوريا، وإن جاز التعبير، عن «الصبر الاستراتيجي». من الواضح أن موسكو لم تغفل درس النهج الصيني في «الصبر الاستراتيجي» الذي عاد على الصين بالفائدة ونجحت عبره في إخماد حركة الاحتجاج العارمة في هونغ كونغ، على الرغم من محاولات تأجيجها من الخارج.
يمكن هنا المقارنة مع منشور آخر ظهر في وسائل الإعلام في موسكو يبدو للوهلة الأولى أنه موضوع مختلف تماماً وبلد آخر، لكنه أيضاً نوع من الرسائل إما شخصياً من المؤلف والصحافة وإما من السلطة. من الصعب هنا التكهن. الحديث يدور عن مقال بقلم الصحافية فيكتوريا بانفيلوفا، مكرَّس لتركمانستان ونُشر في جريدة «نيزافيسيمايا غازيتا» في موسكو. هذه الدولة والجمهورية السوفياتية السابقة، التي تحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي، هي شريك مهم لروسيا في مجال الطاقة. في الآونة الأخيرة، ظهرت أخبار عن استئناف شراء شركة «غازبروم» للغاز التركماني بحجم 5.5 مليار متر مكعب في السنة، وهو أقل من ذي قبل. لا تزال الصين هي المستورد الرئيسي للغاز التركماني.
يمكن للصحافيين في روسيا، على عكس الصورة السائدة عنهم في الغرب، أن ينتقدوا تصرفات سلطتهم، وهم ينتقدون تصرفاتها باستمرار. السلطة في كثير من الأحيان تصغي لهذه الانتقادات. لكن توجيه مثل هذا الانتقاد الحاد والمهين إلى زعيم دولة، وهو شريك اقتصادي وسياسي مهم لروسيا، أمر غير عادي للغاية. خصوصاً إذا كان هذا الشريك عضواً في رابطة الدول المستقلة. بالطبع، بانفيلوفا ليست من ضمن «مجموعة الكرملين» الصحافية بل إنها معروفة باستقلاليتها وحتى في بعض النواحي بأنها صحافية معارضة. لكن مع ذلك، ما الذي يقف وراء شجاعتها وقسوتها غير المعتادة والتي ستغلق لا محال الطريق أمامها تماماً إلى عشق آباد؟ دعونا نلقِ نظرة على بعض نصوصها. ففيها أيضاً يوجَّه اللوم في المقام الأول إلى عدم وجود الإصلاحات اللازمة التي وعد بها زعيم البلاد قربان قولي بيردي محمدوف، الذي حل محل الراحل صابر مراد نيازوف وكان يُنظر إليه في البداية على أنه «إصلاحي» في المقام الأول.
ولكن بدلاً من الإصلاحات في تركمانستان، برزت «الأساطير» ومنها: «الأزمة الاقتصادية العالمية، وتراجع أسعار الغاز والعلاقات الصعبة مع المشترين الرئيسين له، ونفقات الغرور الضخمة التي أفرغت الخزانة، والقروض الخانقة، والقدرات الإنتاجية الضئيلة، جميعها أدَّت إلى أن تركمانستان، بدلاً من الرخاء والازدهار، وجدت نفسها في أزمة اقتصادية صعبة وطويلة الأمد»، كما تزعم الصحافية. إنَّها لا تتحدث فقط عن عبادة الشخصية، ولكن عن هيمنة «نظام يحكم البلاد والذي لا تزال تهمه العبادة، وليس الشخصية».
لا أقارن بأي حال من الأحوال بين بلدين مهمين لروسيا – كل منهما بشكله الخاص – مختلفين تماماً بعضهما عن بعض. التركمان قريبون من الروس كمواطنين سابقين لدولة واحدة «الاتحاد السوفياتي»، وليس من قبيل الصدفة، على سبيل المثال، أن يدرس عدد كبير من الطلاب من تركمانستان في الجامعات الروسية. والجهود التي بذلها الشعب السوري والقوات المسلحة والحكومة في مكافحة الإرهاب والدفاع عن سيادة البلاد وسلامة أراضيها قد أكسبتها الدعم غير المشروط من الغالبية العظمى من الروس – الأصدقاء المخلصين والتقليديين لسوريا.
ليس الغرض من تعليقي على الإطلاق هو المقارنة، بل إظهار كيف من خلال مؤسسات المجتمع المدني في روسيا، بما في ذلك من خلال وسائل الإعلام المستقلة، قد تتلقى الدول الشريكة لروسيا إشارات معينة لا تأتي رسمياً من السلطات، لكن ربما تعرض المزاج السائد في المجتمع وجزئياً في هياكل السلطة. من المحتمل أن تكون هذه الإشارات مفيدة لتؤخذ في الاعتبار من قِبل شركاء روسيا الودودين، وهي التي فعلت الكثير من أجلهم وستواصل القيام بذلك، من دون أن تكون بالضرورة متضامنة مع سياساتهم في كل شيء.
*خاص بـ«الشرق الأوسط»