لا شكّ في أنّ الأزمة السورية تحتلّ المرتبة الثانية بعد الأزمة الأوكرانية في المواجهة السياسية الحاصلة بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، خصوصاً أنّ محاولات رسم حدود النفوذ بين القطبَين الدوليَّين باتت العنوان الوحيد للمرحلة المقبلة بينهما.
لا يختلف اثنان على أنّ موسكو تمكّنت من العودة بقوّة إلى مسرح السياسة الدولية، وعادت لتُحيي أمجاد الاتحاد السوفياتي السابق، بعدما أوقفَت الزحف الاميركي في عملية تغيير الأنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بذريعة تعميم الديموقراطية ومحاربة الإرهاب وغيرها من الشعارات التي اعتاد أبناء العمّ سام رفعَها.
بعد سقوط النظامين في مصر وليبيا، أدركت روسيا أنّ البساط يُسحَب ببطء من تحت قدميها، وأدركت حجمَ الخسارة التي مُنِيت بها على المستوى الاستراتيجي في العالم العربي، لذلك فإنّها ومنذ بداية الأزمة السورية، جعلت من هذه المعضلة أحد عناوين المواجهة مع الغرب.
وليس خَفيّاً أنّ الروس تمكّنوا من كسر شوكة الأميركيين في مجلس الامن الدولي مرّات عدّة، ومنعوا صقورَ إدارة البيت الابيض من إسقاط النظام السوري بسيناريوهات صقور البنتاغون، الأمر الذي جعل من الأزمة السورية منطلقاً لتثبيت نفوذ أساسي للدبّ الروسي على الخريطة السياسية مجدّداً.
الحراك السياسي والديبلوماسي الروسي في الآونة الأخيرة يشير إلى أنّ موسكو بدأت تنتهج سياسة جديدة حيال الملفات الدولية الساخنة، ولم تعُد تنظر الى واشنطن وبروكسل كشريكين في ترسيم الخريطة السياسية للعالم، بل إنّها تحاول أن تُغرّد منفردةً من خلال تبنّي حلولٍ لبعض الأزمات من دون العودة أو التشاور مع الغرب، وهذا ما يُعيد إلى الأذهان النهجَ السياسي السوفياتي، وهو اللعب على التناقضات في الوقت الضائع.
وبما أنّ الأزمة السورية دخلت مرحلة «راوِح مكانك»، بعد فشل محاولات جنيف، دخلَ الروس على خط فتحِ قنوات مع المعارضة السورية ورُعاتها الإقليميين والعرب، فاستقبلوا وفوداً سياسية وعسكرية معارضة للنظام السوري، وتمكّنوا من تحقيق تقدّم كبير في تقريب وجهات النظر، وهذا ما عبَّر عنه المبعوث الخاص للرئيس الروسي ميخائيل بوغدانوف بالإشارة إلى أنّ الرئيس السابق للائتلاف السوري المعارض معاذ الخطيب طرَح خلال لقاءاته في موسكو نقطتين مهمّتين، وليس لدى روسيا اعتراضٌ عليهما، وهما محاربة الإرهاب، والتفاوض لإيجاد حلّ سياسي مع الحكومة السورية.
لا شكّ في أنّ بوغدانوف بَنى مواقفَه هذه على إشارات إيجابية جاءت من الخطيب بعد لقاءاته في موسكو، ما يعني أنّ الديبلوماسيين الروس سيوسّعون شبكة اتصالاتهم خلال الأيام المقبلة لتهيئة الظروف المناسبة لجَمعِ المعارضة والحكومة على طاولة واحدة، بغَضّ النظر عن التسميات أكان ذلك سيندرج لاحقاً ضمن إطار «موسكو 1» أو سيكون من التحضيرات لـ«جنيف 3»، خصوصاً أنّهم تمكّنوا من مدّ بعض الخيوط المهمّة مع اللاعبين الإقليميين، وذلك خلال لقاء الرئيسَين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيّب أردوغان، وقبله لقاء وزيرَي الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسعودي الأمير سعود الفيصل. ولعلّ هذه الأجواء الإيجابية دفعَت بوغدانوف الى التعريج على تركيا من طريق بيروت للقاء بعض الشخصيات السورية المعارضة قبل عودته الى موسكو.
وتشير أوساط الخارحية الروسية الى أنّ العملَ جارٍ لعقدِ لقاءات قبل نهاية السنة الجارية مع بعض أطراف المعارضة السورية، لتوسيع دائرة الاتصالات بين أطيافها كافة، وذلك للتوصّل إلى رؤية موحّدة قبل بدء التفاوض مع ممثلي الحكومة.
وتكشف هذه الأوساط أنّ بعض الأطراف الخارجية لا تزال غيرَ مؤمنة بإمكان التوصّل إلى حلٍّ سِلمي بين الحكومة والمعارضة. وترى أنّ استمرار واشنطن في تقديم الوعود حيال تسليح المعارضة المسلّحة وتدريبها يعرقل كلّ المساعي الهادفة الى وقف نزيف الدم في البلاد، لأنّ ذلك يدفع بأطراف معيّنة للعودة الى الرهان على الحسم العسكري.