لعل أدق توصيف لحركة موسكو الحالية باتجاه الحرب السورية، وتالياً لنهايتها من دون نتيجة، ما قاله الرئيس السابق لـ «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» أحمد معاذ الخطيب عشية موعد ما سمي «موسكو – 1» نهاية كانون الثاني (يناير) الحالي. أعلن الخطيب في بيان له أنه «لا بد من إجراءات جدية لأية مؤتمرات ترعاها جهات داعمة للنظام… وأولها إلزامه بإيقاف القصف الوحشي لشعبنا، للمستشفيات والمدارس والمدنيين والأماكن السكنية، بما يشكل إحدى أكبر الجرائم في تاريخ الإنسانية».
بل لعلها في واقع الأمر أولى نتائج الدعم غير المحدود، سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً وحتى مالياً، لنظام بشار الأسد من روسيا فلاديمير بوتين طيلة الأعوام الأربعة الماضية. النتيجة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن موسكو فقدت، من بين أمور أخرى كثيرة، دورها كوسيط يمكن الوثوق به أو كعامل مساعد على الحل في الحرب السورية التي غرق فيها بوتين إلى ما فوق أذنيه.
وطبيعي أن تدرك إدارة بوتين ذلك، كما تدرك في الوقت ذاته أنها لا تملك (وربما لا تريد؟!) إقناع حليفها الأسد بإيقاف حربه المجنونة ضد شعبه، بعد أن اعترف هو شخصياً، فضلاً عن بوتين إياه، بأن لا حل عسكرياً للأزمة في سورية. فلماذا إذاً مبادرة موسكو هذه، وماذا تتوقع أن تنتهي إليه، إذا كانت مبادرتها الأولى («جنيف – 1» ثم «جنيف – 2») قد اغتيلت بيدها وبيد حليفها قبل نحو عامين من الآن؟
يبدو أن بوتين، كما حليفه الأسد، يحاول أن يستغل الآن نقاط الضعف لدى المعارضة (قوى الثورة الحقيقية المتراجعة عسكرياً من ناحية، و «داعش» و «جبهة النصرة» اللذين يقاتلانها من ناحية ثانية)، فضلاً عن نقاط الضعف الدولية المتمثلة بتردد الغرب، وإدارة باراك أوباما تحديداً، إن في مواجهة الأسد ونظامه أو في محاربة الإرهاب، من أجل تحقيق ما عجز الحليفان عن تحقيقه خلال الفترة السابقة. وما عجزا عن تحقيقه، سياسياً وعسكرياً ومادياً ومعنوياً على حد سواء، ليس بقاء النظام من دون تغيير فقط، إنما بقاء الأسد على رأسه أيضاً… فهما باتا في حكم المنتهيين، ولو لم تصدر ورقة نعيهما الرسمية بعد.
لكن ما كشفته حركة موسكو الراهنة أنها، وفي هذا المجال بالذات، باتت أعجز من دمشق نفسها. ذلك أن الفكرة التي صاغها وزير الخارجية سيرغي لافروف، وجال بها على بعض دول المنطقة نائبه ميخائيل بوغدانوف قبل فترة، افترضت عقد لقاء لقوى المعارضة المختلفة في موسكو أولاً، على أن يليه، في حال الاتفاق بين هذه القوى على موقف واحد وتشكيل وفد موحد، لقاء آخر مع وفد يمثل النظام لمناقشة مطالب الطرفين وما يمكن إجراؤه من إصلاحات في النظام، على طريق التوصل إلى حل سياسي ينهي أربعة أعوام من نزف الدماء.
وعلى هذا الأساس، استقبلت موسكو في الأسابيع الماضية كلاً من معاذ الخطيب ورئيس «هيئة التنسيق» حسن عبدالعظيم وغيرهما من معارضي الداخل والخارج تحضيراً للأمر. لكن ما حدث بعد ذلك أن موسكو تراجعت عن خطتها هذه لمجرد أن النظام رفض عقد لقاءين منفصلين وأصر على الاشتراك في المؤتمر من بدايته، أي عملياً على الالتقاء بوفود وشخصيات متعددة ومختلفة في ما بينها كما كان موقفه من مساعي الحل السياسي على الدوام.
كذلك، فإن موسكو لم تقدم أي معطى جديد يساعد على الحل، ولا حتى تعهداً بالتزام موقفها السابق من بنود «جنيف – 1» لجهة تشكيل «هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات كاملة»، ولا عملت بعد ذلك على تلبية أي من مطالب المعارضين الذين تشاورت معهم في موسكو أو إسطنبول أو القاهرة.
كان مطلب الخطيب، فضلاً عن وقف القصف الوحشي كما قال، هو أن «أساس مقدمات التفاوض إطلاقُ سراحِ المعتقلين، خصوصاً النساء والأطفال»، وأن «بيان جنيف يشكل الأرضيةَ لكل عمليةٍ سياسيةٍ تؤدي إلى وضع انتقالي لإنقاذ سورية». أما مطلب عبدالعظيم، فكان أبسط من ذلك بكثير: «على السلطة أن تبادر إلى خلق مناخ ملائم للحوار يسمح للمعارضة بأن تثق هذه المرة بجديتها، وذلك بالشروع في تنفيذ البنود الستة في خطة (المبعوث الدولي – العربي السابق) كوفي أنان كبادرة حسن نية، لا سيما لجهة إطلاق المعتقلين السياسيين وبينهم القياديان في هيئة التنسيق عبدالعزيز الخير ورجاء الناصر (اعتقلا قبل حوالى عام لدى عودتهما من موسكو)، وكذلك لؤي حسين رئيس تيار بناء الدولة وغيرهم».
لم تفعل المبادرة الروسية شيئاً من ذلك، ولا حتى قدمت وعداً بأنها ستفعل عشية المؤتمر، بينما لا يزال مسؤولوها يتحدثون عن «موسكو – 1» باعتباره لقاء سورياً – سورياً من دون تدخل خارجي، ثم عن «حل سياسي» للمأساة السورية المديدة يمكن أن يخرج من هذا المؤتمر.
أغلب الظن أن ما يحاوله بوتين، من خلال مبادرته، الظهور في صورة أنه وبلاده ليسا في عزلة دولية بسبب غزوه شبه جزيرة القرم ومشكلته مع أوكرانيا، ولا في مأزق سياسي – اقتصادي كبير نتيجة الانخفاض الهائل في أسعار النفط والعقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على روسيا.
لكن المؤكد في الوقت ذاته، ولأسباب تتعلق ببوتين نفسه وبحليفيه السوري والإيراني، أن مبادرته هذه قد ماتت قبل أن تولد.
وإذا كانت مقاطعة الخطيب للمؤتمر من ناحية، وعبدالعظيم من ناحية ثانية، و «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» من ناحية ثالثة، تعني شيئاً في هذا السياق، فهو أنهم سيكونون ممثلين للنظام ولمعارضة الداخل المتحالفة معه… وأن «موسكو – 1» لن يكون مختلفاً في قليل أو كثير عن «دمشق – 1» الذي طالما تحدث عنه النظام من أيام تكليف فاروق الشرع برعايته في عام 2011 وما تلاه من تشريعات، وتشكيل حكومات، وإجراء انتخابات بلدية أو نيابية أو حتى رئاسية أخيراً.