على رغم من الحركة التي أحدثتها موسكو على مستوى الازمة الحكومية في لبنان، الا أنه ما يزال من المبكر جداً الحديث عن ولادة حكومية قريبة.
في الواقع إن مبادرة المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم، والتي حملت تصوراً جديداً، كشفت عن الابعاد المخفية للازمة الحكومية وبات معروفاً انّ رئيس الجمهورية وافق على حصة «الخمسة زائداً واحداً»، بحيث يجري تكريس حكومة «الثلاث ستّات» لكن مع تعويض لرئيس الجمهورية مقابل تخلّيه عن «الثلث المعطّل» وهو بإعطائه حقيبة وزارة الداخلية، ولكن بعد موافقة الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري على الاسم المقترح. وهكذا يستمر عون في تقديم لوائح عن ثلاث اسماء الى ان يوافق الحريري على واحد منها. لكنّ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل أبدى اعتراضه، هو ردّد انه سيظهر بصورة «المنكسر». في هذا الوقت كانت باريس تتابع التطورات الجديدة من خلال ممثل الرئيس الفرنسي باتريك دوريل الذي اتصل باللواء ابراهيم مبدياً اعجابه بالسيناريو المطروح. وطُلب من دوريل الاتصال بباسيل لحمله على تليين موقفه، وبعد محادثة طويلة ابدى باسيل عدم اعتراضه شرط ان يمتنع تكتله النيابي عن اعطاء الثقة للحكومة، إنقاذاً «لماء وجهه».
اعتقد دوريل انه نجح في تحقيق الخرق المطلوب، لكنّ الحريري الذي استمع لكل الطرح أبدى رفضه هذا المخرج «فإذا كانت الكتلتين النيابيتين المسيحيتين الأكبر ستحجبان الثقة عن الحكومة، فهل تعتقدون انّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري سيقبل بالدعوة الى جلسة الثقة لحكومة ستدشّن حضورها من خلال نَعتها بأنها نافذة للميثاقية؟». وهكذا رد الحريري على الطرح، وأغلق هاتفه وسافر الى الامارات حيث التقى لاحقاً الوفد الروسي برئاسة وزير الخارجية سيرغي لافروف.
موقف الحريري أظهر انه هو ايضا لديه سبب ما يدعوه الى تأجيل الولادة الحكومية، صحيح انّ عذره حول الميثاقية له ما يبرره، لكنه كان قادراً على المفاوضة، وكونه أقفل خطه ورحل فهذا يعني انه يخفي سبباً آخر.
في الواقع، إن الحريري يدرك جيداً أن العقدة الاقليمية لم تحل بعد والمقصود بها «الفيتو» السعودي الحازم على تمثيل «حزب الله» في الحكومة لا مباشرة ولا غير مباشرة. ذلك أنه حالما الانتهاء من تسوية العقدة مع رئيس الجمهورية، فإنّ مواجهة ستنتظر الحريري مع «حزب الله» الذي يصرّ بقوة على أن يتولى هو تسمية وزيريه ومن فوق الطاولة. وهو ما يعني انّ حكومة الحريري ستخسر فوراً اي امكانية للدعم السعودي ومعه الخليجي لها. اي ستكون امتداداً لحكومة حسان دياب ولاستمرار، لا بل لتفاقم الازمة الموجودة، او ربما لنزاع مفتوح مع «حزب الله» وهو ما لا يريده.
لذلك، فلتكن المشكلة حيثما هي الآن، اي بينه وبين رئيس «التيار الوطني الحر»، والتي تبقى كلفتها أقل في انتظار خرق خارجي مع السعودية. وكان الحريري يعوّل على زيارة الرئيس الفرنسي للسعودية لتليين موقفها، لكنّ الزيارة تأجّلت الى موعد غير محدد بسبب التعقيدات الحاصلة مع سياسة الادارة الاميركية الجديدة.
وخلال لقائه بالحريري عرض لافروف ركائز سياسة بلاده في المنطقة وفق الترتيب الآتي:
1 – أولوية الملف السوري ومعه الملف الايراني في المنطقة.
2 – الملف اللبناني الذي دخلت موسكو على تفاصيله حديثاً.
3 – ليبيا وشمال افريقيا.
وبالتالي، إن القيادة الروسية تضع خريطة واضحة لتحركها بين الغام الشرق الاوسط لتأمين مصالحها وتعزيز دورها المتنامي، وهي تدرك جيداً أن مفتاح الحل في لبنان يكمن من ضمن الحلول المنتظرة في سوريا، والاهم انّ موسكو تريد وتلتزم المحافظة على التوازنات، بحيث لا تسجل الحلول غلبة لفريق على آخر، لا في سوريا ولا في لبنان. ذلك أن التوازن يفتح الباب حتماً أمام دور روسي اكبر واكثر فعالية، وهو يُرضي في الوقت نفسه دول الخليج القلقة من الفوذ الايراني المتمادي في سوريا ولبنان، خصوصاً ان روسيا تتطلع الى مصالح جديدة لها في الخليج الغني. وبالتالي، فإنّ روسيا التي تعمل على تحضير دورها في لبنان وإنضاج ظروفه، تربطه بالساحة السورية وتدرس سبل تأمين خروج «حزب الله» من سوريا على مراحل ومن دون أن يكون هذا الخروج على شكل خسارة.
وفي الكواليس انّ موسكو تعمل على عقد مؤتمر للنازحين السوريين على ان يكون مقرّه هذه المرة في بيروت، بعد أن فشلت الصيغة السابقة والتي كانت مطروحة في دمشق، لكنّ انعقاد هذا المؤتمر يستوجب وجود حكومة لبنانية شرعية. وفي خلال لقائه مع الحريري في ابو ظبي، كشف لافروف انّ موسكو تتحاور مع طهران حول لبنان منذ مدة، وانها أبلغت الى الايرانيين موقفها الرافض تغليب فريق على آخر في لبنان.
كذلك تحدث وزير الخارجية الروسية عن أن الحلول في الشرق الاوسط في حاجة الى محادثات معمقة مع الاميركيين، ولا بد من ان تشارك ايران في جوانب منها، وانّ المحادثات في هذا الشأن بين موسكو وواشنطن بدأت فعلاً منذ فترة، ولكن ما يزال امامها كثيرا من الوقت للتوصّل الى تفاهمات معينة، خصوصاً أن سياسة ادارة بايدن في الشرق الاوسط لم تتضح كلياً حتى الآن، وهو ما معناه ايضاً انّ الساحة اللبنانية وتطوراتها مرهونة بمسار هذه التفاهمات.
وبخلاف الاعتقاد الساري لدى البعض، فإن الدور الروسي في لبنان سيكون مكملاً للمبادرة الفرنسية، لا بديلاً منها كما يتوهم البعض.
تجدر الاشارة الى انّ وزارة الخارجية الروسية التي تتابع ادق التفاصيل اللبنانية لدرجة أنها تطلع على كافة الاخبار التي تتعلق بروسيا في مختلف وسائل الاعلام اللبنانية، لا تتردد في إبراز دعمها للحريري ومعارضتها وعدم استساغتها سياسة رئيس الجمهورية، وخصوصاً للسلوك السياسي للنائب جبران باسيل.
في أي حال، فإنّ زيارة وفد «حزب الله» الى موسكو، والذي تعتبر خطوة متقدمة قد لا تكون كافية لتأمين الولادة الحكومية. فإمّا تبدل في الموقف السعودي، او قبول من «حزب الله» بعدم التسمية، ولكن في كلا الحالتين ثمة عدة معانٍ وتوازنات جديدة، وبالتالي هناك أثمان لا بد من تسديدها في مكان ليس ببعيد عن الساحة اللبنانية.
وفي واشنطن، ثمّة إصرار على إنجاز تفاهم مع ايران، هنالك من يقول انّ البديل عن التسوية اندلاع حريق بين ايران وافغانستان ومن خلفها باكستان، لا قدرة على الاقتصاد الايراني المتهالك من تحمل تكاليفه. ما يعني انّ التسوية حتمية، وأنّ اتفاقاً سيحصل ولو مع الإقرار بوضع ضوابط له.
في الواقع تبدو الاشهر المقبلة، وربما سنة 2021 بكاملها، امام أحداث وتطورات كبيرة ستصيب الساحة اللبنانية في الصميم وستلفح وجه لبنان بتبدلات عميقة. ومن هنا ربما كلام البابا فرنسيس في طريق عودته من العراق من أنّ لبنان يمر في أزمة وجود. ومعه يبدو النزاع العاصف الدائر في لبنان والذي يأخذ في بعض جوانبه الاستحقاق الرئاسي المقبل، بأنه سخيف وسطحي وانفعالي. فهوية الرئيس المقبل للبلاد تحددها التطورات الاقليمية الكبرى المقبلة، والتوازنات والمعادلات التي سيجري رسمها وفقاً للدور او «الوظيفة» التي سيتولاها الرئيس اللبناني المقبل.
وبالتالي، «بعد بكّير» على إطلاق النار الحاصل على قائد الجيش عبر التعبير عن الخشية من حظوظه الرئاسية، وايضاً استهداف البطريرك الماروني، خصوصاً أنه قد يكون هنالك حاجة الى دور ما لبكركي مستقبلاً لمصلحة تثبيت الاستقرار. ربما التفسير الوحيد المنطقي لاستهداف بكركي واليرزة على حد سواء، هو اكتشاف مقدار الاحتضان الشعبي الذي ناله الموقعان خصوصاً بعد الانهيار الذي طاوَل الطبقة السياسية الحاكمة، في مختلف تلاوينها منذ احتجاجات 17 تشرين.
سبت بكركي، كان معبّراً جداً، وفعلَ «حزب الله» الصواب في إعادة احياء لجنة الحوار معها. والاحتضان الشعبي لكلمة قائد الجيش العماد جوزف عون كان واسعاً وهو ما يوجِب معالجة ما طرحه، لا الانتقال الى إطلاق النار السياسي عليه.
والأهم ما بات يدركه الجميع، بأنّ معادلة اليرزة ـ بكركي بما باتت تمثّله شعبياً، لم يعد من الممكن تجاوزها.