هذه المرّة، قررت موسكو الانخراط فعلياً، وبالتفاصيل، في وحول الأزمة اللبنانية، وهي تتفاقم وتزداد حدّة منذرة بمزيد من الفوضى والخراب، ولو أنّها راقبت عن كثب كيف غرقت الإدارة الفرنسية في مستنقع الخلافات بين القوى اللبنانية، وكيف تعرّضت رئاستها للصفعة تلو الأخرى جرّاء تعنّت المسؤولين اللبنانيين وتغليبهم مصالحهم على المصالح العامة، بينما البلد يتلاشى ومؤسساته تتحلّل وأهله يئنون تحت وطأة الفقر والجوع والعوز… أو الهجرة في أحسن الأحوال.
في الواقع، تعرف موسكو الواقع اللبناني عن كثب، مع أنّها تعاطت طوال الفترة الماضية، وتحديداً مذ عودتها العسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط من البوابة السورية، بكثير من الحياد مع الملف اللبناني. ركّزت كلّ اهتمامها على الملف السوري بمندرجاته العسكرية والاقتصادية والسياسية. إلا أنّ الخطورة التي بلغها الوضع اللبناني بشكل بات ينذر بتوسيع بيكار الفوضى والتي قد تصبح غير قابلة للضبط، دفعت المسؤولين الروس إلى وضع الملف اللبناني على طاولة بحثهم الجديّ. وقد سبق لهم أن خبروا تجارب “الفوضى المنظّمة” التي شهدتها اوكرانيا أو جورجيا، وهم يدركون جيداً أهدافها، مخططاتها، ومن تخدم، وتعلّموا جيداً من دروس “الربيع العربي”. ولهذا يتعاطون بكثير من الحذر مما قد تحمله رياح الفوضى في لبنان.
وفق المطلعين، فإنّ موسكو ليست بحاجة إلى “دليل” يساعدها على فكّ أحجية الأزمة اللبنانية. المبعوث الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف يعرف الواقع اللبناني عن كثب، وعلى اطلاع موثّق على توازناته، تركيبته الطائفية، تعقيداته وأدوار قواه السياسية.
ولذا فإنّ انغماسهم في الملف اللبناني، يرتكز على أرضية معرفتهم الجيّدة بالعمق اللبناني وخصوصيته. ولذا كان أول اللقاءات مع “حزب الله” في خطوة هي الأولى من نوعها، حيث لم يغب ملف مستقبل سوريا السياسي عن الاجتماعات بين الفريقين. وفي اليومين الماضيين حلّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري ضيفاً على المسؤولين الروس، من باب تكريس تأييد موسكو لموقع الحريري كممثل لطائفته، كما يقول المتابعون واستطراداً لرئاسته الحكومة.
العمل على إعادة ترميم الثقة
أما الالتباس الذي وقع حول لقاء مفترض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيشير المطلعون إلى أنّ مكتب الحريري أخطأ في ادراج اللقاء مع بوتين قبل تأكيد الموعد، فيما يبدو أنّ موسكو التي تتحضّر لاستقبال ولقاء أكثر من مسؤول لبناني، تحرص على عدم تكريس قاعدة الاجتماع مع بوتين، في ما لو فعلتها مع الحريري. ولهذا تمّ شطب الموعد من جدول لقاءات رئيس الحكومة المكلّف. ويفترض أن تحدد خلال الأيام القليلة المقبلة المواعيد الرسمية لاستقبال رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل المتوقع له أن يزور موسكو قبل نهاية الشهر الحالي، كما تفيد المعلومات.
في التفاصيل، يتبيّن أنّ موسكو تسعى إلى إعادة ترميم الثقة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ومعه باسيل، من جهة، وبين رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري من جهة أخرى، في محاولة منها للتشجيع على قيام حكومة في وقت سريع. ويؤكد المطلعون أنّ المسؤولين الروس اضطروا إلى الغوص في تفاصيل الخلافات، التي باتوا يحفظونها عن ظهر قلب، لتقريب المسافة بين الفريقين وتذليل العقبات، ويشيرون إلى أنّ المجهود الروسي ليس استعراضياً لا بل ينمّ عن حرص جديّ وخشية من التطورات المقبلة في ما لو لم تنجح مساعي التأليف، معتبرين أنّه على الرغم من الكباش الأميركي- الروسي المستجد، فإنّ ما تقوم به موسكو لا يتناقض أبداً مع الموقف الأميركي الذي عبّر عنه وكيل الخارجية الأميركية ديفيد هيل خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت بوضوح، من خلال الدفع باتجاه تأليف حكومة إصلاحية.
تسويات على حساب لبنان
وفق المطلعين، فإنّ واشنطن تشجّع على قيام حكومة في هذه الفترة من دون انتظار التطورات الاقليمية والدولية المرتبطة بملف المفاوضات مع إيران، غير أنّ ثمة اشكالية لا تزال عالقة بنظر المطلعين وهي تؤخر قيام الحكومة، وتتصل بعقدة مشاركة “حزب الله”، والتي لا تزال مرفوضة أميركياً وسعودياً. وهي اشكالية موضع نقاش من الجانب الروسي بحثاً عن معالجة لها.
يُنقل عن المسؤولين الروس أنّ دخولهم على خطّ الأزمة اللبنانية ينمّ عن شعورهم بخطر داهم على الساحة اللبنانية، وبكون الأزمة الواقعة ليست أزمة حكم أو حكومة كما يتمّ تصويرها، بل أكثر من ذلك. ويخشون من أن تأتي التسويات في المنطقة، على حساب لبنان اذا لم تكن أرضيته مجهّزة لهذا الترتيب الجديد. والحكومة هي بوابة هذه الأرضية.
ويؤكدون جدية الروس في متابعتهم بدليل رغبتهم الجدية في الاستثمار من خلال شركات روسية ستكون في لبنان في الأيام القليلة المقبلة لمناقشة مشاريع استثمارات وبينها المرفأ.