تخطىّ «موسكوـ 2» البيروقراطيّة، لم يعد مؤتمر القلم والورقة لتسجيل الحضور والغياب، وتدوين الملاحظات، بل لتلمّس الواقعيّة. إستمرار الوضع على ما هو يعني أنّ سوريا لن تكون من حصّة المعارضة، ولا من حصّة النظام، بل من نصيب فوضى عارمة بلا ضوابط.
لا ينظر الروس الى «موسكو ـ 2» من منظار النجاح أو الفشل، بل من منظار الواقعيّة ينعقد المؤتمر على خلفيّة إنهيار مبادرة الموفد الأممي ستيفان دو ميستورا. رفضتها المعارضة من دون أن تقدّم البديل، او أنّ البديل الذي قدّمته غير قابل للتطبيق لأنها ليست في موقع الغالب لكي تملي شروطها على المغلوب.
أما المجتمع الدولي فهو غير مجنّد لخدمة مطالبها، إنه منصرفٌ الى حماية مصالحه، وما تريده الديبلوماسيّة الروسيّة أن يقرأ المشاركون في كتاب الواقعية، سوريا لن تكون لأيٍّ منهم إذا ما إستمرّ العناد، هناك ما يفوق الألف من الميليشيات والتنظيمات، هناك ما يفوق هذا العدد من المجهولين الذين يتّخذون من السلاح وسيلة عيش.
وينعقد المؤتمر على خلفيّة دفتر حساب جديد فُتِح في اليمن، لم يعد المنشغلون منهمكين بالملف السوري، بل فُتحت أمامهم أبواب أخرى أدق وأخطر. والمستثمرون في المعاناة، أمام إلتزامات من نوع مختلف تتطلّب كثيراً من الدقة والمهارة للحفاظ على الدور والهالة والمعنويات.
والداعمون بالمال والسلاح والديبلوماسيّة، أمام أسواق جديدة، وتحدّيات من نوع «سرّي جدّا». ما يريده الروس من ضيوفهم في «موسكو ـ 2» أن يقرأوا جيّدا في كتاب المستجدّات لإستخلاص العبر.
وينعقد المؤتمر على خلفيّة الإتفاق الإيراني مع الغرب، هناك صفحة قد فُتحت، لا تزال مجهولة العناوين والمضامين. إلاّ أنّ الروس يكاشفون المؤتمرين بحقيقتين: الأولى، أن لا النظام، ولا المعارضة كانا شريكين في المفاوضات، وبالتالي لم ولن يكونا في موقع الفعل، بل حتماً في موقع ردّ الفعل. والثانية، أنّ ترسيماً جديداً لحدود المصالح قد بدأ، وهو يشمل سوريا مثلما يشمل غيرها، وتقضي الواقعيّة التفاهم على مواجهة المجهول الذي يتحكّم بمسار الدول والكيانات ومستقبلها.
لا ينظر الروس الى «موسكو ـ 2» من منظار النجاح أو الفشل، بل من منظار الواقعيّة، وحجّتهم متواضعة، إن نجح المؤتمر سيكون مجرّدَ خطوة في مسافة الألف ميل، وإن فشل فلن يزيد من منسوب العنف المنفلّت. الأولوية المطروحة على جدول الأعمال، لا تتناول شكلَ النظام، ومستقبلَ الصيغة، هذه أمورٌ متروكة للحوار عندما يصلب عوده، ينحصر البحث راهناً في إيجاد مساحة مشترَكة.
إنّ السنوات الماضية من العنف كانت كافية للإقتناع بأنّ صيغة «الغالب والمغلوب» قد سقطت، ولم يتمكّن أيّ طرف من حسم الوضع لمصلحته. ثمّ إنّ قواعد التحكّم بمسار التطورات بدأت تخرج عن إرادة الأطراف الرئيسة، لتصبح في عهدة الميليشيات المسلّحة التي تمسك بالأرض.
ويتزامن «موسكوـ 2»، مع عودة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من الشرق الأوسط بعدما شارك في القمّة الإقتصادية، ثمّ القمّة العربيّة في شرم الشيخ، ومؤتمر الدول المانحة في الكويت. وأطلق فور عودته الى نيويورك نداء إستغاثة، «الأمور في الشرق الوسط أصبحت في عهدة الفوضى، الوضع الإنساني يستولد الأزمات.
لم تعد تكفي أعمالُ الإغاثة، ولا بدّ من وقف الإجتياحات، هناك إجتياح لمفهوم الدولة، والنظام، والقانون. هناك إجتياح للحدود ولسيادات الدول، هناك إجتياح للقِيَم والأعراف والمواثيق، ولا بدّ من عمل دولي مشترَك قبل فوات الأوان».
وقبل أن يجفّ حبر الإستغاثة الأمميّة، أطلق البابا فرنسيس نداءً يدعو الدول الكبرى القادرة والنافذة الى تعبئة عامة لإنقاذ الإنسانية المتألمة في العراق، وسوريا. لا يملك البابا جيوشاً جرّارة، ولكنه يملك عمقاً إنسانياً معنوياً يتحسّس المخاطر الناجمة والتي قد تنجم من ثقافة التوحّش التي تزداد إمتداداً وإنتشاراً، وتخرج عن إرادة النافذين، لتتحوّل فوضى عارمة.
ولم تبقَ ألمانيا متفرّجة، قاربت المستشارة آنجيلا ميركل الإتفاقَ النووي من منظار مختلف، ترى أنّ المجموعة الدوليّة (5+1) أمامَ تحدٍّ جديد، ولا بدّ من عملٍ جاد وموحَّد لإعادة إحياء الجيوش والشرعيات في الدول الغارقة بدماء أبنائها. لم يعد الخطرٌ محصوراً ومحاصَراً بل تجاوز ضفّة المتوسط ليشكّل تحدّياً داخل دول الإتحاد الأوروبي.
الفوضى عارمة وقد إجتاحت كلّ الحواجز والروادع، وأسقطت المعايير القانونيّة والسلطوية. وعلى «موسكو ـ 2» أن يحاكي الواقعية «تختلفون على إقتسام جلد الدّب، فيما آخرون يصطادونه، ويقتسمون جلده في آن معا؟!».